الثلاثاء، 2 يوليو 2013

"خازوق" المؤامرة إذ يسكن المنطقة الرخوة من العالم


عبدالعزيز المجيدي

aziz.press7@gmail.com

وسط هذا الاحتشاد غير المسبوق في مصر، لم تتوقف جماعة الإخوان المسلمين برهة لتأمل المشهد وتقييم تجربتها القصيرة في الحكم، وإثارة الأسئلة العميقة، بل ذهبت وأنصارها إلى الطريق الأسهل : الحديث عن مؤامرة، لا تستهدف حكم الإخوان، بل والإسلام أيضا !
  لا أظن الجماعة ستكترث للسياسات الخاطئة التي انتهجتها في التعامل مع واقع ما بعد الثورة، ولا في القرارات التي عبر عنها مرسي طيلة عام من الحكم، ولا أظنها مهيأة بطبيعة تكوينها السياسي والثقافي والفكري، لنقد الذات، أو على الأقل شخوص القيادات القابضة على القرار، الراسمة للجماعة مسار العمل، وللرئيس أجندة الحكم، وأولويات الرئاسة.
كان على الجماعة أن تعي طبيعة التحدي من اللحظة الأولى عقب إعلان نتائج الانتخابات، فعلى أساسها غدا محمد مرسي رئيسا لمصر، بفارق ضئيل على منافسه شفيق، الممثل بالفعل، لنظام مبارك .
لقد حسم مرشح الجماعة الانتخابات في الجولة الثانية بأصوات المعارضين، وقوى الثورة التي وضعت ثقتها في مرسي، لقطع الطريق أمام نظام مبارك من العودة عبر بوابة شفيق، رغم هواجس الخوف من أداء الجماعة ونواياها.
غير أنه كان يتوجب عليها أن تسأل نفسها بصدق: لماذا حصد شفيق تلك النتيجة الكبيرة، وفي مرحلة ثورة رغم انه " فلول" ؟
لا يمكن بالطبع القول بأن أكثر من 14 مليون مصري كانوا يحبون نظام مبارك عندما صوتوا لشفيق، لكنه من شبه المؤكد أنهم كانوا يعبرون  عن خوفهم  من سلوك الإخوان السياسي، إما بفعل الصورة الذهنية التي خلفتها ممارسات الجماعة " المتشددة " خلال عقود من العمل، أو تأثرا بـ" دعايات " الخصوم، الذين روجوا هذه الصورة " المخيفة ". وفي الواقع، لم تفعل الجماعة منذ صفقة " الانتخابات قبل الدستور" مع المجلس العسكري، وعقب صعودها إلى الحكم عبر محمد مرسي ، إلا تأكيد هذه المخاوف!  

 
                                   الجماعة المطاردة .. الجماعة الجشعة

 

عندما كانت في ضفة المعارضة وزخم " الجماعة المطاردة "استطاع الإخوان من خلال بناء تنظيمي محكم، وبنية ثقافية وفكرية لا ترحب بـ " النقاش والمساءلة " بل تكرس فكرة " الطاعة للأمير" مهما كانت مساوئه، بذريعة "الحفاظ على وحدة الصف "، كسب أفئدة الناس المحبطين، عبر خطاب ديني، زاخر بالوعود الأخروية الباذخة، يختصر المعالجات للمشاكل الدنيوية في شعار موجز وخلاب للمتدينين " الإسلام هو الحل " لكنه يفتقد لأي ديناميات أو تصور على الأرض. لقد مكنها ذلك، بالإضافة إلى  النشاط " الدعوي الخيري" مع " مظلومية " الجماعة المقموعة، من الانتشار واكتساح القوى السياسية الأخرى، لكن مكاسب عقود  تبخرت في غضون عام !غير النكث بالوعود والاحتيال على الشركاء ( توقيع ميثاق شرف مع قوى المعارضة قبل الجولة الثانية مثلا) والجشع الذي أظهرته الجماعة بالسيطرة على السلطة، كانت حكومة مرسي، تفشل على المستوى الاقتصادي والأمني. فسعر العملة المحلية ظل ينخفض بوتيرة مقلقة للناس، والخدمات تتردى، و بدلا من القيام بواجبه  كرئيس يمتلك السلطة، كان مرسي في خطابه الأخير، يتحدث عن قيام "فلول" بتمويل " لأعمال بلطجة " في حين كان جديرا به مواجهتها وإحالة المتورطين للقضاء! لكن أسوأ ما حدث في عهد مرسي هو حالة الانقسام الطائفي غير المسبوق، فنظام مبارك الذي عزز الانقسام بين المسلمين والأقباط، وأشتغل على التناقضات بين ديانتين تنهض عليهما شخصية مصر منذ أكثر من 1400 سنة، خلف شقوقا في الجسم المصري، وجاء حكم الإخوان ليرسم المزيد من الشقوق في هذا الجسد المنهك.للمرة الأولى تنفجر صدامات، تحمل لافتات " سنة وشيعة " قادتها جماعات سلفية وسط تعبئة وتحشيد يغلي في المنطقة يأخذ شكلا مخيفا، مع حديث يتنامى عن " مؤامرة" لإشعال فتيل اقتتال طائفي، بين "سنة وشيعة" دشنت مراحله الأولى في سوريا !لا يلتفت أحدا من "الإخوان " إلى أن ما يجري في مصر، ناجم عن سوء تقدير وسوء إدارة، وفشل سياسات ومنهج حكم، مسؤول عنه قيادات وأفراد يجب أن يخضعوا للمساءلة .  عوض ذلك ذهبوا إلى جلب عدو متوهم طلبا لمنازلته في ميدان الدم الذي لن يلتهم أحدا سوى مصر الدولة و المصريين.


                                      الذهاب إلى "المؤامرة " عوض المكاشفة والمساءلة

  

علينا أن نعترف بمشكلة ضخمة تلتهم هذه البلدان، الدولة تلو الأخرى، هي طريقة تفكير الساسة والحكام وحتى نخبنا الثقافية .نظرية " المؤامرة " تستوطننا بصورة مَرَضية كما لو كانت " نبوءة " بعثت لهذه المنطقة المسترخية من العالم . فعند كل مأزق أو محنة نلوذ بـ " شيطان المؤامرة" باعتباره العدو الجاهز وغير المكلف، وحائط المبكى القريب، في عملية هروب  دؤوبة ومتوالية، نتقنها منذ قرون، عوض المكاشفة ومساءلة أداءنا الخاص.في سوريا اكتفى النظام هناك وهو يواجه ثورة شعبية سلمية كما كانت عليه في طورها الأول، بتوجيه أصابع الاتهام للخارج والعزف على وتر" المؤامرة " المتربصة بنظام  الممانعة العتيد.كان بشار الأسد ونظامه وقتها يقتادون الثورة الشعبية عبر أعمال القمع والعنف الوحشي، إلى الدمار والاقتتال، ويفتح أبواب بلده واسعا للمقاولات الإقليمية والدولية، ويذهب بها إلى الجحيم والتمزق  الذي تعيشه اليوم، وكان يقدم سوريا إلى " المؤامرة " على  طبق من ذهب .  كان يكفي بشار الأسد أن يلتفت إلى الوراء قليلا،  12 عاما فقط، للتأمل، متجردا من كل نوازعه الأنانية، وسيشعر بامتنان بالغ لشعبه لأنه صبر عليه طيلة هذه المدة، وكان لديه أهم سبب للثورة والإطاحة به : وراثة الرئاسة في بلد جمهوري! مقابل هذا التملك للدولة والتعامل معها كمتاع شخصي لعائلة، طيلة فترة حكمه ، لم يقدم بشار أي " رشوة " للسوريين حتى في مادة دستورية واحدة لضمان أي شكل من الإصلاحات السياسية، مع أن نظامه استطاع تغيير مادة دستورية جوهرية في غضون 24 ساعة وتفصيلها على مقاس طبيب الأسنان الذي حالفه الحظ كي يصبح رئيسا،  بعد فقدان شقيقه الأكبر باسل، في حادث !كما الأسد، فعل من قبله مبارك وبن علي والقذافي وصالح، وكل اشتغل بطريقته، مع إختلاف المآلات والنهايات.لم تكن " المؤامرة " سلاحا يستله الحكام إلا في مواجهة المطالب الشعبية بالحرية والكرامة، بعد أن بلغ استبداد العائلات الحاكمة في هذه الأوطان حدا أصبحت معه العائلات الإمبراطورية تتوارى خجلا أمام  صنف هذه الأسر الطارئة حتى على التاريخ !  

                                     " مؤامرة"  أمريكية تصنع الربيع العربي !


لقد انتقلت عدوى " المؤامرة " إلى الشارع العربي المهيأ بطبيعة تكوينه ونمط ثقافته التي تميل إلى الانغلاق و التعصب، حتى غدت الثورات، أو الانتفاضات، الفعل الوحيد الذي صنعه شباب متطلع وحالم بإرادته الفذة،  ببساطة " مؤامرة أمريكية  صهيونية ".  ما من سبب يجعل الناس يلطخون حلمهم بهكذا تهمة سوى أن الأمور آلت إلى وراثة الأحزاب والتيارات الإسلامية لأنظمة الحكم  في هذه الدول، أو لأنها غدت الرقم الأكبر في معادلة الحكم والسلطة! ينطوي الاتهام بحد ذاته، على إهانة بالغة لكفاح الشباب النبيل والطاهر الذي كتب بدمه قصة الثورة، كما انه لا ينقص من قيمة الفعل أن هذه الأطراف الإسلامية تحصد الثمار لأسباب لها علاقة بإمكانياتها التنظيمية الهائلة وانتشارها الواسع عبر خطاب ديني حاز مكانة بين البسطاء، أيا كان الموقف المؤيد أو الرافض منهم.هذه الذهنية سيطرت على قسم واسع من الفصائل السياسية متعددة المشارب، ذات الأفكار المتصادمة مع الإسلاميين . لقد كانت أمريكا ممتنة لهذه الطريقة من التفكير التي سادت المنطقة كتعبير عن الصدمة من ممارسات الإسلاميين في الحكم ، وكانت هذه أفضل " تهمة"  محببة لواشنطن . أتذكر كيف كان مساعد الرئيس الأمريكي باراك اوباما ممتنا وهو يقلب في هذا الاتهام عندما كان يرد في مؤتمر صحفي بصنعاء قبل عام.  تلقى سؤالا  يضع واشنطن في صورة الصانع "للربيع العربي" ومساندتها لصعود الإسلاميين إلى الحكم، فرد بصورة تنطوي ضمنيا على إقرار ذكي، قائلا : إن الولايات المتحدة اختارت طريق دعم مطالب الشعوب في الحرية والكرامة " !   كان المسؤول الأمريكي يكذب بكل جوارحه، لكن رده خلّف ارتياحا، لأن هناك من ينتظر إجابة مرضية لقناعاته، و للتفسيرات الشائعة عن دور أمريكي في الربيع العربي. ذلك التفسير الذي كان مخلصا للنقمة على الإسلاميين أكثر من الحقيقة . 

                                           30 يونيو الامتداد الطبيعي لثورة 25 يناير


اليوم في مصر، حيث الأجواء هي بالقطع  امتدادا لربيع ثورة يناير الفذة " الشبابية المصرية الأصيلة " و في موجتها الثانية، يتبدى أن جماعة الإخوان المسلمين لم ترث الحكم فقط، بل ولوثة "المؤامرة" وذهنية الحاكم المستبد أيضا .  لا يريد الإخوان الاعتراف بفشلهم السياسي، وإخفاقهم في التعامل مع أوضاع ما بعد الثورة، وضعف قدرتهم على تلبية المطالب الاقتصادية الملحة، وانتهاج  سياسات فاقمت الانقسامات، ودفعت البلاد نحو المزيد من الاحتقان .  يريدون تفسير ما يجري من احتشاد شعبي مناوئ لسياسات الجماعة بنفس الطريقة، فالتحديات التي تواجهها مصر، ناجمة عن " مؤامرة " يقودها  " الفلول" وذهب البعض إلى وجود مؤامرة "  خارجية" لا تستهدف حكم الإخوان فقط بل والإسلام أيضا !هذه الذهنية " المريضة " بالمؤامرة، والاصطفاء، كما لدى حركات دينية كثيرة، لن تساعد مصر على وضع اليد على الجرح ولا إلى تشخيص العوامل والأسباب الداخلية للتشظي والانقسام، بل إلى تحويل كل الفصائل والتيارات والمذاهب إلى بيادق بيد " "المؤامرة "  التي استعبدت الجميع .لو آمنت  جماعة الإخوان وأنصارها والرئيس محمد مرسي، بمنطق " المؤامرة " لتفسير ظاهرة " تمرد " الشبابية  فهذا يعني أنها ( أي الجماعة ) نجحت خلال سنة واحدة من الحكم، في تحويل قسم كبير من الشعب المصري الذي ثار على مبارك، إلى سلاح بيد " الثورة المضادة " على ما تزعم! وهذا ليس سببا للمكابرة والعناد، بل دافعا أكبر للقبول بمطالب " تمرد" والذهاب إلى انتخابات مبكرة، فالإخفاق في تحصين البلد ضد المؤامرة، يصبح سببا إضافيا لترك الحكم، هذا بافتراض أننا سنغلق حواسنا عما يعتمل على الأرض وسنصغي لشكوى " المؤامرة"  . 

                                                    شقوق وصدوع في جدران هشة


اعتادت ذهنيتنا الفردية والجمعية على الاسترخاء، وعلى الإجابات الجاهزة المقولبة، التي لا تكلف كثير مشقة، ذلك انه ما من طريق أسهل من إلقاء اللوم على الآخر وتضخيم فكرة الاستهداف، والمظلومية أحيانا، في تفسير مآزقنا التي صنعناها بصورة من الصور وهو ما يبقينا دائما رهنا لهذا النوع من الاستلاب .هذا لا يعني أن " المؤامرة " وهم ، بل هي جزء أصيل من طبيعة الصراع في العالم، وإذا كان الساسة سيتعاملون معها باعتبارها اكتشافا خارقا، فليس هناك ما هو أغبى من هكذا فهم، مع أننا ندرك أنها ليست أكثر من وسيلة للتهرب من مجابهة الحقيقة المرّة  .
" المؤامرة " دائما لا تستطيع أن تعمل إلا عندما تجد بابا مواربا أو شقوقا عميقة في جدار هش. إنها تشتغل  برفقة كم هائل من الذرائع المتلبسة بصور " إنسانية "  أو" وطنية " مختلفة .
تعتمد ذهنية  " المؤامراة " على المخاتلة والخداع، فالإحالة إلى هذا النوع من التفكير، يعمل على استثمار مخزوننا من النقمة والتعصب والعداوات المتخيلة، ليضعنا في خندق المواجهة مع عدو هو في الواقع حقيقي أحيانا، لكنه يشكل نسقا أخيرا خلف (عدو) نحاول أن نتجاهله بل ونتعمد تركه يسرح في كل الإرجاء بلا مساءلة . انه نحن: جماعات وتيارات وأفراد، نصنع بممارساتنا، وسياساتنا، وطريقة فهمنا لعقائدنا السياسية والفكرية والدينية،  الكثير من الكوارث، ثم نترك الباب مواربا للمتآمرين والأعداء المتربصين الذين لطالما تسللوا من  " شقوق وثغرات " نحن على الدوام أصحابها الحصريين .


                                          وأخيرا نجح بشار الأسد، مصر إلى أين ؟


بفضل هذا النوع من التفكير، غدت سوريا اليوم بالفعل، مسرحا لمؤامرة دولية ما كان لها أن تحقق هذا النجاح بتدمير الدولة السورية، لولا نظام الأسد نفسه بصورة رئيسية، تماما كما كان صدام حسين بسياساته مسؤولا بدرجة رئيسية عن تدمير العراق ووضعه تحت الاحتلال . فبعد كل الأخطاء الجسيمة والقاتلة للنظام، هناك في سوريا أكثر من أي مكان آخر، يتبدى الدور والإستراتيجية الأمريكية في أوضح صورهما : لا تريد إسقاط نظام الأسد، كما يحاول متعصبون تصوير الأمر، ولا تريده أيضا أن يحقق انتصارا كاسحا على المعارضة المسلحة.  هي تقول بكل صراحة : إن ميزان القوى العسكرية بين النظام والمعارضة، يجب أن يظل متوازنا، وهي تحرص على اشتعال حرب إنهاك تفضي بسوريا إلى خارطة ممزقة لمصلحة كنتونات طائفية واثنيه.  من خلال استمرار الاقتتال، سيسهل على واشنطن وشركاءها الروس اقتياد أطراف الصراع إلى صياغة تسوية بين سوريين ضعفاء، تبقيهم جميعا تحت " الوصاية " والانفجار في أي لحظة كما هو الحال في لبنان، مع ضمان حصة لروسيا وإيران والسعودية، لكن الساحة السورية قبل ذلك، مازالت مطلوبة لإشعال المنطقة بالمزيد من الاقتتال .
 هل ستركب " المؤامرة" رأس الإخوان لتذهب بمصر إلى سوريا أخرى؟ يبدو الأمر مستبعدا، لعوامل كثيرة، أهمها وجود جيش ذو نزوع وطني،  لكن  طريقة التفكير في الحكايتين لا تختلفان كثيرا، في ظل الغياب الفادح لمشروع دولة المواطنة الذي تحتاجه هذه الدول الآن أكثر من أي وقت مضى . انه  التعصب وخازوق "المؤامرة " نفسه في الرأس، يُقعد هذه البلاد عن التفكير وقراءة وتشخيص الأمور كما هي عليه في الواقع وليس كما هي في الروؤس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق