السبت، 21 مايو 2005

الوحدة في قلب المخاطر*

عبد العزيز المجيدي 


عشرات المليارات من الريالات تنفق الآن في مكلا حضرموت، تصب في معظمها لإعداد المحافظة للاحتفال بالعيد الخامس عشر للوحدة. مجسمات، رصف للشوارع، ونشاط فجائي حل على المحافظة على أكثر من جانب. 




عشية الاحتفال المقبل بالعيد.. ربما تغرق المكلا في بحر من نيون واسلاك الاضاءة، وقد تتهيأ بزينة موسمية كما فعلت صنعاء عند الاحتفال بالعيد العاشر للوحدة قبل خمس سنوات. وربما ذات مواصفات الانشاءات والمقاولات تنشط الآن هناك!!
مليارات الاحتفاء بالوحدة قد تتلاعب بالعيون والمشاهد غير انها على ما يبدو عاجزة عن تفكيك شخصية الدحباشي.. ذلك الساكن في اعماق ابناء حضرموت والمناطق الجنوبية والشرقية. وهي الشخصية المحاصرة بالشكوك وتهمة الاحتلال.
ما مضى من زمن فارط لم يخدم الوحدة وكان لاعباً مسانداً ضدها وثمة من منحه هذا الدور ولا يزال.
في جزير سوقطرة كانت مدرسة (...) شاهدة على اعتلال مايستوطن وعي الناس هناك.
كان احد المدرسين في أحد صباحات الجزيرة يفرغ بعضا من وعيه الباطن تجاه طالب وافد من المناطق الشمالية. قال علي علوي وهو مدرس يعمل في الجزيرة- لصوت الشورى: «في طابور الصباح نادى المدرس (...) على أحد الطلاب: «يادحباشي...» دون مراعاة كونه مدرساً ينبغي عليه الابتعادعن مثل هذه الالفاظ في المدرسة أو الشارع».
وثقت القضية في محضر رفع الى مكتب التربية بالجزيرة.. لكن كم محضراً يجب عمله لمواجهة مثل هكذا وقائع تحاصر الطالب حتى من جميع زملائه- حد علي علوي - الذي كان آخر ماافصح عنه في الثلث الأخير من الشهر الفائت نيته ابلاغ النيابة بالامر. والأمر لا يقتصر على سوقطرة، هناك في معظم المحافظات للدحابشة ألف حكاية وحكاية، وهي ليست حالات فردية.
لايمكن لأحد المراهنة على النيابة في هكذا أمر، كما لايمكن لقوة عسكرية تغيير موقف تغذيه ممارسات يومية لسلطات ومسئولين لايلتفتون لفداحة مايصنعون.
وحده الكبت وابطان الموقف قد يكون ثمرة لاستخدام القوة او العنف او مضاعفة المخاوف الامنية في مواجهة هكذا ظهور لكنه حتما سيفضي الى نتائج وخيمة.


كانت الفرحة عارمة ولم تستثن بيتاً يمنياً شمالاً وجنوباً باعلان الوحدة اليمنية في 22 مايو 90م. التهبت الاكف بالتصفيق وتيبست الحناجر بالهتاف لعلي عبدالله صالح وعلي سالم البيض وهما يرفعان علم الوحدة أملاً ببداية عهد جديد يختلف عن ذاك الذي قاساه المواطنون في الشطرين قبل 22 مايو.
دخل الرجلان باب الوحدة وفي اجندة كل منهما حسابات مختلفة وكثير من الهواجس، بينما اندفع المواطنون محمولين بعفوية المشاعر الجارفة لاعادة تحقيق الحلم والامل.
بدأ الشركاء بالتململ ولم يثمر الاقتسام للاجهزة والوظائف احتواءً لخلافات شكلت نذر ازمة وازمات متعاقبة على مدى ثلاث سنوات من وحدة مرتعشة. وكانت الحرب الدامية صيف 94م واحدة من نتائج اخطاء وسياسات لم تكن مرتبطة بالوطن قدر ارتهانها لحسابات فردية محضة، وان بدت مغلفة بشعارات تمجد الوطن الضحية.
آلت الساحة بكاملها لطرف بعد هزيمة الآخر، والحرب دوما لاتخلف زهوراً، انها تزرع اشواكاً وتفتح اخاديد في النفوس تتطلب زمنا كافياً لردمها في الظروف الطبيعية. فكيف الحال ان كانت مغروسة بالحراب؟!
حين تدخلت الدبابة كانت تؤرخ لمرحلة جديدة، تاريخا آخر من احتقانات تتناسل.
الطرف المنتصر اطمأن الى تثبيت سيطرته على الحكم. غرس اقدامه على مساحات مترامية كانت خارج نطاق الاحتواء. المواطنون هناك كانوا اشبه بقوالب طين استسلمت لـ«نار» ممارسات السلطة المنتصرة.
وكانت نفوسهم مهيأة لتلقف كل ذلك وترجمته آليا كسياسة ممنهجة لاقصائهم.
الادارة بالفوضى، تعطيل القوانين، اشاعة النهب وتوزيع المساحات مغانم حرب: سياسة كسبت ارضاً جديدة، فيما كانت تخسر المزيد من مساحات الرضى في نفوس الملايين.
مصدر الاحتقان هو ذاته من اعتقد أنه قاتل من اجل الوحدة، وسلطاته ادارت أكبر عملية حقن لمشاعر عدم الرضى إن لم يكن الكراهية لدى مواطني المحافظات الجنوبية والشرقية.
كل تصرف كان يخلق عقدة اضافية.. يكرس صورة مشوهة لوحدة بدأت تاخذ حيزاً من التأثيم. الناس لايفرقون في العادة بين الوحدة كخيار ومصير وبين ممارسات اساءت اليها.
هم ينطلقون من وعي تلقائي، ردود افعال ومشاعر انسانية لاتتيح متسعاً لكثير تفكير وفرز. ربما هي ايضا نتيجة طبيعية لما كرسته السلطة ذاتها اذ جعلت الوحدة والحاكم في رباط عضوي لاينفصلان.
وذلك ما جعل ممارسات الحاكم تلحق الضرر بالوحدة في وعي العامة.
في ظل حالة الموات السياسي وضمور فعالية الاحزاب وانكماش الهامش الديمقراطي عقب الحرب ظهرت احتقانات المواطنين علي شكل صيغ تعبيرية مختلفة: تندُّر على الوحدة، ووصم كل شمالي بـ«دحباشي» كتعبير عن الازدراء والامتعاض معاً.
الحالة المعيشية للمواطنين كانت حاضرة والظروف الاقتصادية والسياسات الحكومية في هذا الجانب ساهمت هي الاخرى في خلق صورة ذهنية مشوهة. ربطت بين الفقر وسوء الحال والوحدة.
لم تغير السلطات من طريقة تعاطيها وربما كان ذلك اعجازاً لاتستطيع اجتراحه اذ ان ذلك يعني خروجاً عن سياق حكم وتجربة لا تنتج سوى نفسها وذات آلياتها منذ ثلاثة عقود.
وكذلك الأحزاب فضلت البيات، وتركت الشارع والسلطة يحتكمان للفعل ورده. بينما زادت حدة الانتكاسة النفسية للشارع، تحديداً ذلك المنتمي لمحافظات الجنوب.
الاصوات التي كانت ترتفع هنا وهناك تختنق بقصف تخويني يرى في انتقاد الممارسات قدحاً في الوحدة وخيانة لها.


على ذات المنوال ظلت الدعوات للاصلاح والمصالحة بلا رجع صدى فضلا عن سد أجهزة السمع والاصغاء من قبل السلطة. وحده الهجوم والتخوين والطعن في المقاصد سلاحاً فضلته السلطة وان لم تبد تنازلاً عن العصا الغليظة في مواجهة النقد.
كانت اللجان الشعبية التي تشكلت في العام 2000م تعبيرا عن احتقان جدي رأى في ذلك خياراً مناسباً للتعبير عن المطالب. وكانت رسالة يحسن بالسلطة قراءاتها بتمعن لمعرفة اتجاهات تعتمل في الشارع.
الحكم عدَّ ذلك اتجاها معادياً للوحدة يتغذى من المؤامرات، وهي النظرية المجندة دوماً في الصفوف الاولى للمواجهة.
المواطنون هناك على الضفة الاخرى من «القلب» ليسوا اعداءً للوحدة، معظمهم ابتهجوا كما لم يكن في حياة اي منهم عند إعلانها.
السلوك اليومي لسلطات الحكم خلق روحاً مختلفة اسقطت «الحلم» في نفوس الناس: اولئك الذين شاهدوا نهب الاراضي والاستيلاء على المتنفسات والمحاباة في الوظيفةالعامة.
وهي ممارسات تجلد الوطن من المهرة الى صعدة وليست عذاباً مسلطا على المناطق الجنوبية والشرقية وحدها.
نصر يدرك هذا غير ان ذلك لايعني ان جميع ابناء تلك المناطق يتفهمون الامر.
يقول نصر - فضَّل ذكر اسمه الأول فقط - وهو مدرس في محافظة عدن: الاوضاع تسوء يوماً بعد يوم والشباب لايجدون عملاً ويرون ان القادمين من المناطق الشمالية جاءوا على حسابهم».. ان اثارة امر كهذا اثارة للنعرات واستهداف للوحدة.
والسلطة التي تدرج هذا التناول في ذات السياق تمعن في مخادعة نفسها واظهار الامر كما لو كان استهدافاً خارجياً.
ان من يخلق الذرائع للخارج بالتدخل هو ذاك الذي يجعل من الروح الوطنية للمواطن هدفاً لقنصه اليومي. وهو قنص لايلتفت للاضرار التي يلحقها بالوحدة التي يتشدق باسمها ليل نهار بقدر التفاته لمغانم آنية لحاشية ومراكز النفوذ ومراكمة سنوات الحكم.
ان احداً لن يلوم ذلك المواطن الذي اسودت في جنباته دلالات الوحدة. ذلك الذي جعل من الوحدة فيداً ونهباً هو من يهيء الذرآئع لتدخلات الخارج. السلطات تنظر الى صرخات البعض من ممارسات كتلك مزايدة فارغة.
باتجاه المعارضة صوبت كل اتهاماتها الجاهزة. ماجعل الاخيرة ساكنة عن فعل حقيقي لمواجهة مخاطر تداعيات السلوك السلطوي على الوحدة... واقتنعت بالانين.

من وسط الحزب الحاكم واطراف في السلطة خرج في عام 2002 ملتقى المحافظات الجنوبية والشرقية. وبين حين واخر كان على السلطة مواجهة المزيد من الاحتقانات لوضع غير سوي.
تحدثت رسالة موجهة لرئيس الجمهورية عن مبررات تشكيل الملتقى.
وقالت انه جاء «نتيجة للظروف القاسية لـ(محافظاتنا) بسبب كثير من الممارسات والاجراءات غير الوطنية من قبل اجهزة الدولة، وشعور ابناء هذه المحافظات بالحرمان من كثير من الفرص نظراً لرؤى ضيقة وممارسات شريرة تحدث في جهازي الدولة المدني والعسكري».
كانت الرسالة تحتشد بالكثير مما رآه القائمون على الملتقى سبباً لاعلانه: الابعاد والتهميش لابناء تلك المحافظات دون مراعاة للكفاءة والتأهيل، التوزيع غير العادل لاراضي واملاك الدولة والبسط والتقسيم والسطو. وتقسيم مجالات الاستثمار الى مربعات محدودة لرؤوس اموال معينة احبطت قطاعاً واسعاً من المستثمرين من ابناء هذه المحافظات في الخارج.
ورغم ما أشيع في حينه عن تشكيل الملتقى كآلية ضغط على السلطة للحصول على مصالح معينة او الحفاظ على القائم منها، الا ان الأرضية التي وقف عليها الملتقى كانت مهيأة من الحكم ذاته!!

السلطة التزمت خط سير المواجهة الدائم:وصم المتبنون للملتقى بـ«التمترس خلف المناطقية والخروج عن الثوابت، والواهمون الذين يصطفون خلف مصالح ذاتيه ونفعية».
ولم تجابه الاسباب الحقيقية الداعية لهكذا ملتقيات.
كان العميد علي القفيش وهو واحد من شخصيات جنوبية تبنت الملتقى اكد بان هذه المطالب عادلة وليس فيها خروج عن الثوابت الوطنية.. وقال في حوار صحفي نشر آنذاك: نحن حريصون على الوحدة الوطنية واغلبيتنا تنتمي الى الحزب الحاكم..
تساءل: عندما يأتي وزير او محافظ ويحرص ان يكون الطاقم من حوله من قبيلته او منطقته هل هذا يخدم الوحدة الوطنية؟!

قطعاً لايمكن لادارة كتلك خلق مواقف سوية تجاه الوحدة انها تصنع ذرائع لابتزاز لن يكون الخارج بعيداً عنه. وفي اطار لعبة المصالح الدولية وخطط تقاسم النفوذ فان ذلك الذي يرتمي في أحضان الخارج هرباً من سوء الداخل لا يختلف بالقطع عن ذلك الذي هيأ الأسباب. هي الأسباب اذاً تصنع النتائج لا العكس.

التضييق على مناقشة قضايا كهذه خلق مناخاً طارداً لعمل سياسي يراهن على التحرك بادوات الداخل.

هناك في لندن تشكل التجمع الديمقراطي في يوليو العام الماضي وهي حركة معارضة فضلت الخارج مكاناً ملائماً لمناوأة نظام الحكم ولايهدف التجمع للمطالبة باصلاحات سياسية كما تفعل المعارضة هنا بين الحين والاخر بصوت خافت.
كان الاخطر في الأمر تركز نشاط التجمع في الدعوة لتحرير الجنوب.
ازمة حقيقية تحيط بالوحدة جعلتها مطية لرغبات وربما حسابات خارجية، غير ان احداً لايستطيع تبرئة ساحة سلطة ترى في كل طرح استعداء لها واستهدافاً لتعجيل لمصيرها.
نهاية الشهر الماضي لم تكتمل بهجة السلطة ولم تمر محاضرة الرئيس في سيول والوسام الكوري دون منغصات.
روج الرئيس لتجربةالوحدة اليمنية في جامعة سيول، وحاضر هناك آلاف الطلاب الكوريين.
ولا يبدو أن الكوريين بحاجة لتكرار النموذج اليمني لتجاوز محنة التشطير.
لم يكن الرئيس قد عاد الى صنعاء ظافرًآ بوسام سيول. من لندن تلقى الرجل خبراً لم يكن ساراً بالتأكيد، وايا كانت الخلافات فانه ربما لم يتوقع ان يعلن قائد القوات البحرية السابق لجوءه السياسي لبريطانيا. تحدث احمد عبدالله الحسني عن محاولات اغتيال تعرض لها في دمشق وهي العاصمة التي عينه فيها الرئيس سفيراً منذ العام 2001م.
هناك تبنى الحسني مطالب اضافية ظل صامتاً عنها منذ تعيينه قائداً للقوات البحرية بعد حرب 94م وحتى قبل اعلانه اللجوء نهاية الشهر الماضي.
كانت جاهزية المبررات اكثر نضوجاً من الحسني.. ليقف هناك على ماسبق ان صرخ به عديدون: كتاب وسياسيون وصحافة.
«الحسني» وهو السفير للرئيس لدى دمشق كان اكثر تطرفاً في الحديث عن الوحدة اذ عد الشماليين محتلين للجنوب وناهبين لثرواته.
كان الحسني سيفتقد لسند قادر على تقديمه كصاحب قضية وطنية.
لكن ممارسات الحكم وادارته مكنت الحسني وستمكن غيره من مبررات نشاط يسهل تسويقه في اوساط العوام حتى وان كان الرجل واحداً من منتفعي النظام حتى اللحظات الاخيرة لما قبل التحوَّل.
ان مهددات الوحدة ليست خارجية. انها بذرة تتعهدها السلطة بالرعاية وتمنع عنها فؤوس التشذيب والنقد.
وذلك مايمنح الخارج مدخلاً واسعاً لضغط وابتزاز قد تتنازل له السلطة لضمان بقائها..
الضحايا الآن كثر.
مواطن يمني تتداعى عليه نوائب الحكم من المهرة إلى صعده.
ووطن وضعته إدارة الأزمات في قلب المخاطر.
وذلك لا يعني أن النظام يؤبد بقاءه على رؤوس الخراب. بحسب «زيد الوزير» فان هناك عائقين يحولان دون تثبيت الوحدة: غلبة النهج الشمولي واستمرار تطبيق الفردية بعيداً عن بناء مؤسسات الدولة.
وكذلك استمرارا دور القوى المحلية بروحها العشائرية القبلية وتأثيرها على أداء الحكم. ذلك ما رآه «الوزير» في كتابه «نحو وحدة لامركزية».
بين يدي الذكرى الخامسة عشرة لتحقيق الوحدة اليمنية تمثل أمام اليمنيين سلطة ومعارضة شمالا وجنوباً تحديات جسام: تحديات إزالة المخاطر التي تكتنف الوحدة اليمنية من داخلها.
إغفال السلطة لمشاكل كتلك اندماجاً في دور إعادة تفكيك محتمل للبلد. وتجاهل المعارضة لذات المخاطر، وممارسة دور النعامة، هو تواطؤ يدفع بالوطن إلى هاوية تبدو سحيقة القاع!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتب هذا المقال لصحيفة صوت الشورى في الذكرى الخامسة عشرة لاعلان الوحدة، وأعادت نشره صحيفة الشورى اليمنية. وقتها لم تكن الاوضاع قد وصلت الى هذا المستوى من التفجر حيث اصبح التحدي الاخطر لليمن الآن وغدا : البقاء موحدا .
تضمن المقال قراءة مبكرة للازمة الحالية وحذر منها ، فالمعطيات لم تكن تخطئها العين ، باستثناء اعين الساسة التي تقودهم غالبا الى الجحيم ، لكن المشكلة اننا والبلاد سنكون معهم. 

هناك تعليق واحد:

  1. قراءة رصينة ورائعة للغاية ..
    هذا تشريح ذكـي ودقيق للمخاطر التي تنتشر في كيان الوحدة اليمنية، الأمر الذي يقود الى احتمالات وشيكة بدأت بالتحقق الآن .. وهو كما وصفه الزميل المجيدي : إعادة تفكيك محتمل للبلد.
    ليت من يديرون زمام الأمور يعون ما تحذر منه أيها العزيز.
    محبتي

    ردحذف