الاثنين، 25 يوليو 2011

يساعدون رئيس مراوغ على الإفلات من الثورة

عبد العزيز المجيدي
aziz.press7@gmail.com  
مرت الأيام الأخيرة من شهر مارس شديدة الوطأة على الرئيس، وكان على يقين ربما أكثر من معارضيه، أن أيامه في الحكم أصبحت معدودة. لذلك تصرف كغريق يبحث عن قشة لينجو بجلده، ويا لحظه!، فقد عثر على أكثر من قشة إن لم يكن قارب نجاة بكل عتاده. 

وقتها لاح له مشهد الرحيل ماثلا كما لم يحدث في أحلك ظروف حكمه، فعندما كانت قواته تجهز على 56 محتجا من المطالبين برحيله بكل وحشية بصنعاء في 18 مارس الفائت، كانت أرواح الشهداء تزلزل نظامه المترنح تحت ضربات الثورة الشعبية، ليفقد نصفه في غضون يومين، وتراءت أمامه ربما  صور مفزعة  لمصير قد يكون أشد وقعا من ذلك الذي آل إليه حال رفيقيه في القاهرة  وتونس، فهرع مستنجدا حلفاءه الأقارب والأباعد.   
بدأ باستدراج الجميع بواسطة السفارة الأمريكية بصنعاء، ويبدو أن الرجل كان جادا بما فيه الكفاية ليقنع واشنطن برعاية مباحثات مع قيادات المعارضة لنقل السلطة سلميا، وبدا لحوحا وهو يكتب بنفسه محضر اتفاق لم يكن فيه حريصا على شيء أكثر من الحصول على ضمانات بعدم ملاحقته وأقاربه قضائيا.
لدى الرجل قدرة خارقة على الإيحاء بأنه جادا، وقد كان أفضل من يجيد التعامل مع الوقت بطريقته الشرهة إلى المناورة.  لكنه على ما يبدو لم يكن مخلصا في حياته أكثر من تلك اللحظة . غير أن  السر ليس في رغبته أن يفعل ذلك، بل لأن الخناق كان يضيق عليه، وربما شعر للمرة الأولى بقلة الحيلة، فقد كان في مواجهة مناهضين من طراز لا تسعفه خبرته التاريخية في التعامل معهم.  استنفد كل شيء وهو يحاول إعادة شباب الثورة  إلى منازلهم، حتى القوة الباطشة كانت ترتد إلى نحره لتصيبه بالمزيد من الخسارات، وتقذفه بجموع غفيرة من الشباب والمناوئين لبقائه الى ساحات الثورة السلمية. إنهم طينة مختلفة  عن تلك التي خبرها صالح وظل يتلاعب بها طيلة 33 عاما محيلا البلاد الى مزرعة خاصة به وبأولاده بلا متاعب تذكر .
يصف مصدر رفيع  كيف كان الرئيس صالح وجلا، ومكفهر الوجه وفي حالة نفسية يرثى لها وهو يقابل سفراء دول الخليج العربي بصنعاء نهاية مارس الفائت. فبعد محاولات عديدة لجمع السفراء في لقاء مع الرئيس، أصغى الجميع إلى ما يشبه المناشدة من صالح وطالب دولهم بضرورة التدخل، مبديا استعداده للتنحي عن الحكم مقابل ضمانات له ولأسرته بعدم محاكمتهم. 
بحسب المصدر، فقد أبلغ الخليجيين وبإلحاح شديد بقناعته  التامة بأنه لم يعد بالإمكان ان يستمر في الحكم ، وانه أصبح لا يطيق أن يرى أحدا من الشعب لأنهم باتوا يكرهونه، وهو يكرههم، وان على دول الخليج ان تتدخل " وهي أولى من ترك الأمور للأوربيين والأمريكان ".  فانبرى له احد السفراء كاسرا صمت وذهول زملائه  : يا سيادة الرئيس -ولو سوء أدب كما يقولوا عندكم في اليمن-  هل سترضى أن تتنحى؟ ".  فأجابه الرئيس بلهفة كما لو كان ينتظرها من الحاضرين : نعم ، وأريد فقط ضمانات بعدم الملاحقة  القضائية ". ثم شدد على السفراء بعدم تصديق أي تصريحات على لسان هؤلاء، وكان يشير إلى عدد من مساعديه (نحتفظ بأسمائهم )، لأنهم " كذابين " ، مشددا انه فقط الوحيد المعني بالحديث عن أي تفاصيل أو تسويات في هذا الشأن.
كان واضحا أن الرئيس يواجه متاعب غير مسبوقة ربما أوصلته إلى حالة من الذعر. مع ذلك فعلي عبد الله صالح الذي كان يتحدث إلى الخليجيين  وقبلهم الأمريكيين برغبة شديدة في الحصول على مخرج مشرف، ليس هذا الذي نشاهده الآن يتحدى على شاشات التلفزة كل الملايين التي خرجت تطالب برحيله، ووصفهم بقطاع الطرق والقتلة متوعدا بملاحقتهم ، فما الذي تغير ؟
هناك ما يشبه الإجماع أن الفرصة كانت مواتية تماما، للإطاحة بحكم صالح بعد مجزرة جمعة الكرامة بصنعاء، فالسخط الشعبي بلغ ذروته، وحسم  كثير مشائخ ووجهاء ورجال دين وحتى رجال أعمال أمرهم وانضموا للثورة، كما أن قسما كبيرا من قيادات المؤتمر، بالإضافة إلى وزراء وسفراء وملحقيات  دبلوماسية في الخارج أعلنت الاستقالة وتأييد الثورة، قبل أن يتوج الأمر بانشقاق في الجيش وإعلان القائد العسكري على محسن ذي النفوذ الواسع تأييده ودعمه للثورة .
لقد كانت أصعب الأوقات حقا في  حياة صالح الطويلة في الحكم، ولم يكن متوقعا أنه سيتلقى كل هذا الكم من الضربات المتلاحقة، فقد أخفق في إثارة الانقسامات التي طالما كانت تمده بحلول سحرية في مواجهة أي تحديات تهدد بقاءه.  وللمرة الأولى كان الرجل يشاهد كل تحالفاته تتمزق بشدة واحدة تلو أخرى، وها إنه يخسر أخلص حلفائه ورجاله الأقوياء ليجد نفسه وحيدا، إلا من أجهزة أمنية وعسكرية يديرها أبناؤه وأبناء شقيقه وبعض إخوته، لن تكون قادرة على مواجهة الثورة مهما كانت قوتها، فكيف إذا كانت هذه القوات تصطلي بنار فساد الحاكم وزبانيته!
وفي الواقع كانت عزيمته قد خارت فأيقن أن الثورة تشق طريقها إلى قصره وان لحظة تاريخية جديدة سيكتبها جيل مختلف، تهيأت له ظروف محلية وإقليمية ليقول كلمته بعد طول إقصاء و تبخيس.
طوال الوقت كان صالح يحاول التقليل من شأن هذه الثورة وقوتها الشبابية المحركة، وعلى الدوام كان يحاول أن ينحي باللائمة على اللقاء المشترك ويتهمه بالوقوف وراء هذه الثورة، مع انه يدرك جيدا أن الطريق إلى المشترك لا يكلف الكثير لا في السياسة ولا في الوقت، وهو ابعد ما يكون عن اجتراح تحول كبير كهذا الذي يقض مضجعه.
بعد جمعة "الكرامة" كان الخيار الوحيد هو التصعيد ومواصلة تسديد الضربات  بالمزيد من الحشود السلمية، باتجاه مناطق الحسم، وتجنيب الساحات الحسابات السياسية الضيقة . انها ثورة شعبية كاملة، ومن المهم أن تحافظ على عفويتها لأنها جاءت من خارج الزمن السياسي المهيمن بشخوصه وطريقة تفكيره، وحتى أحلامه ، ولا بد أن الطريق إلى تحقيق هدفها لن يكون بلا تضحيات إذا كانت تريد أن تكون ثورة حقا.
حتى ما بعد 18 مارس كان الرئيس قد أيقن تماما انه على بعد خطوات من  الرحيل، لكن - ويا لسوء حظ الثورة - فقد كان الرجل يجلس في اقل من أسبوع وجها لوجه مجددا مع معارضيه الذين طالما خبرهم جيدا،ليقرر معهم  مصير ثورة شعبية غير مسبوقة في تاريخ البلاد . ذلك وحده ربما كان كافيا لإنعاش مخيلة مقامر متمرس، وقد  قرأ فيها فرصة سانحة للعودة إلى ألعابه التي يبرع فيها تماما .  فبعد اقل من يوم على لقاء جمعه بقيادات المعارضة  بالإضافة إلى اللواء علي محسن في منزل نائب الرئيس بتاريخ 24 مارس الفائت بحضور السفير الأمريكي وممثلين عن الاتحاد الأوربي ،عاد صالح و تنصل عن التزامه بالتوقع على اتفاق نقل السلطة سلميا، خاطفا  الجميع إلى الخلف مستأنفا ما ظل نقطة تفوقه في المناورات، وزج بالجميع في محرقة خطب مملة ومكرورة عن الشرعية الدستورية .
كانت الساحات وهدير الشباب قد زلزلت كيانه، لكنه تبين أن عجلة الثورة لم تتحرر كليا من المكابح، فالتزام أحزاب المشترك، بتأجيل " جمعة الزحف " لتنفيذ اتفاق التنحي منحه شعورا بالأمان وإحساسا بأن الالتفاف على الشباب مازال ممكنا وان أمر الساحات بيد خصوم كانوا على الدوام ممرا محسوب المخاطر. لقد وجد انه يحصل على فرصة ذهبية لاستعادة زخمه، سيما انه سيكون صحبة معارضين هم أيضا مشوشون، لهم تأثير على الثورة، لكنهم يتعاملون معها بأدوات زمن سحيق ثبت فشلها؛ لذلك لم يعد صالح ذلك الذي كانه في الأيام الأخيرة من مارس.
صحيح أن المعارضة واجهت ضغوطا شديدة من الخارج للإذعان لسلسلة " المبادرات " الخارجية، لكنها حين كانت تفعل ذلك، كانت تقبل بالتعامل مع ما يحدث " كأزمة " بينها  والسلطة، وهذا ما يغري الرئيس بالمزيد من المناورات للإفلات من الثورة. لذلك شاهدنا كيف تعامل الرجل نفسه مع المبادرات التي تبين انه هو من وضع خطوطها العريضة، بالرفض تارة والقبول تارة أخرى بشروط ، ثم النكوص والعودة ، وهكذا دواليك مراهنا على الوقت الذي لن يكون جنديا  إلا في صفه في نهاية المطاف.
حتى الآن أخفق رجال المشترك في التعامل مع لحظة استثنائية وفارقة، فبينما كانوا يحرصون على إبقاء مسافة تفصلهم عن الثورة كانوا يتصرفون معظم الوقت في الساحات كأصحاب قرار. لا احد قطعا يستطيع أن يفرض على الأحزاب الابتعاد عن الساحات، وليس من مصلحة الساحات أن تكون فارغة من الأحزاب ، لكن من مصلحة الثورة أن تكون الساحات مالكة لقرارها، على أن يكون الوجود الحزبي مساندا ومفيدا سيما في جهازه التنظيمي وليس مهيمنا، وصاحب قرار بالتصعيد أو التهدئة.
في مصر حافظت أحزاب المعارضة سيما جماعة الإخوان المسلمين على صيغة ملائمة للحظة  عندما خرج شباب الثورة لاقتلاع نظام مبارك: " نحن معهم لكننا لا نقودهم"، ورغم ضخامة الجهد التنظيمي الذي بذله شباب الإخوان فقد تجنبت الجماعة أي تصرف من شأنه الإيحاء بأن زمام الثورة في يدها،وكانت دائما جزءا من مجموع شباب الثورة.
كل محاولات مبارك لجر المعارضة المصرية الى الحوار باءت بالفشل، لأنها كانت تذهب إلى عمرسليمان، وحيدة دون أن يند عنها  – حتى بالإيحاء – بأنها قادرة على اصطحاب ميدان التحرير إلى طاولة الحوار كورقة ضغط .
ربما نجح صالح في تخويف الجيران والمجتمع الدولي بورقة الحرب الأهلية لدفعه إلى بذل جهد دبلوماسي يستطيع من خلاله ممارسة لعبته المفضلة في  قتل الوقت  بالمزيد من المناورات. والأرجح أن مخاوف  أمريكا واوروبا  تنهض على صورة نمطية ليمن قبلي ومتخلف، وينتشر فيه السلاح بكثافة، رافضة إعادة قراءة المشهد وفقا لليمن الذي يتشكل في الساحات بصورة مدهشة، وربما كانت مواقفها مدفوعة بمخاوف بعض حلفائها في الخليج من فعل الثورة نفسه .
 قد يكون مفهوما، تحت هذه المخاوف أن يندفع الخارج إلى هذه الحماسة اللافتة لتوفير خروج آمن للرئيس وانتقال "سلس للسلطة" ، غير انه من غير المبرر أن تقع المعارضة في نفس الفخ ، فتتفاعل بطريقتها القديمة مع مخاوف الخارج، كما لو كانت تخذل تطلعات وأشواق الداخل إلى فعل محلي خالص ينهي حكم مهين وفاسد .
إن أي حرب لن تكون الا مع  طرف واحد هو صالح نفسه، لأنه ببساطة لن يجد طرفا آخر يخوض معه  معركته المتعثرة . لو كان بمقدوره أن يدخل البلاد في حرب أهلية لكان فعل من أول يوم، لأنها ستمنحه طوق النجاة من الثورة، فصورته  لدى العالم كديكتاتور مستبد يواجه ثورة شعبية، ستصبح أخرى لزعيم يكافح من اجل مواجهة  تمرد محلي.  لكن ذلك لم يحدث طيلة 3 أشهر،وكل المؤشرات تقول انه لن يحدث، ففي أكثر المناطق القبلية محافظة وتعلقا بالسلاح  نزل الناس إلى الساحات يواجهون كل أدوات القتل والموت عزلا إلا من عزيمتهم في الصمود ، وكلما أوغل صالح في الدم زاد الناس إصرارا على ثورة اللاعنف، لأنهم أيقنوا أن " الدم ينتصر على السيف " .  
نسيت المعارضة قوة الفعل التي أجبرت الخارج على التفكير للمرة الأولى بتنحي صالح، وذهبت تتفاعل مع مخاوفه، وهو الذي ظل كل الوقت يسد آذانه عن مناشداتها. والخارج غير ملوم لأنه يتصرف على ذلك النحو وفقا لحساباته  ومصالحه ، مع ذلك فلو كان ( هذا الخارج ) بيده أن يقرر شيئا لما سمح بالإطاحة بحسني مبارك -أخلص حلفائه- ورفيقه بن علي تونس، لكنها إرادة الشعوب تملي دائما على أي قوة الإصغاء لمشيئتها. وفي اليمن لاح المشترك للخارج كسبب للعودة بالثورة إلى زمن الأزمات والتفاوض،مع أن ألاعيب صالح ونكوثه المستمر، تساعد المشترك على التحرر من أي ضغوط.
حتى الآن لم  يمارس الخارج ضغطا حقيقيا على صالح يصل مثلا حد التلويح بتجميد أرصدته الضخمة في الخارج، هناك ما يشبه التدليل  للرجل من الأمريكان والأوربيين، أما الخليجيون فقد أصبحوا شركاء في مساعدة صالح للتخلص من الثورة عبر " الموت البطيئ" بواسطة مبادرات هي اقرب إلى كونها تسالي تساعد " الثوار" على ملء فراغهم منتظرين في الخيام .
3 مبادرات حتى الآن بصيغ مختلفة، لم ترض غرور صالح الذي تكيف مع الوضع وأصبح لديه، مقابل "جمع" الثورة "جمعا" لـ" لشرعية الدستورية" ممولة من المال العام . 
يعود الرجل مجددا إلى مراوغاته  مع حالة إذعان مريبة من قبل قيادات المعارضة. ومثلما يفعل أمام الداخل يمارس ذات الهواية مع الخليجيين باسترخاء بالغ. فبعد صيغتين، عدلت صيغة ثالثة، رفضها وقبل بها مرتين، لكنه لم يوقع . في الأثناء كانت قواته تواصل قتل المتظاهرين في معظم الساحات، وغداة زيارة أمين عام مجلس التعاون الخليجي عبد اللطيف الزياني، كانت كتائب صالح تفتك بالمعتصمين في المنصورة بعدن في مجزرة جديدة، لم تحرك أي حساسية إنسانية لدى الخليج حيال جرائم صالح.  والسؤال: كيف تقبل دول تقول إنها تسعى لحقن دماء اليمنيين، حدوث كل تلك المجازر متزامنة مع تحركاتها منذ نهاية مارس الفائت ؟
هذه الأريحية الخليجية ظهرت أيضا حتى عندما تعلق الأمر بمساعيها، فقد وجه لها صالح صفعة قوية عندما رفض التوقيع على اتفاق كان قد أبدى موافقة على توقيعه ، وهو نفسه من طلب إلى الخليجيين بذل مساع مع المعارضة لجلبهم للاتفاق عليه.
لقد تخفف صالح مع مرور الوقت من الضغوط الشديدة سيما من الساحات بعد اتخاذ ما يشبه قرارا " بتبريدها " وتحويلها إلى ورقة ضغط على طاولة تفاوض خليجي. وقد فطن الرجل للأمر، وعلى الطاولة سيكون هو الأفضل دائما في المناورة.
صحيح أن المفاوضات،هذه المرة ستكون برعاية دولية  لكن هذه الدول كانت  - أو هكذا أرادت الظهور – عاجزة عن دفع صالح لتنفيذ التزاماته.  ما يزيد الرجل اندفاعا صوب مغامراته انه يقف في مواجهة نفس الأطراف والسياسيين الذين سلبهم 33 عاما من حياتهم مذعنين لإرادته . ولديه سجل حافل بالألاعيب .
قبل موعد  الانتخابات النيابية عام 2009، أبرم صالح مع أحزاب المشترك اتفاقا بتأجيل الموعد إلى 2011 على أن يشرع الجانبان في نقاشات وخطوات إصلاحية للنظام السياسي والانتخابي . أهدر الرجل عامدا الوقت في تفسيرات متضاربة للاتفاق، جارا معارضيه إلى مهاترات على هامش أزمات طاحنة في البلاد حيث الجنوب يشتعل بالاحتجاجات المطالبة بالانفصال، وسلسلة حروب تندلع في صعدة مع الحوثيين. ومارس الطرفان هوايتهما في تبديد الوقت لمصلحة تنابز سياسي بشأن قانون الانتخابات!
يمر الوقت ويستدرج صالح  رجال المشترك الخاضعين لطريقة عتيقة في ممارسة السياسة  إلى  اتفاق جديد، مضمونه ينص على تنفيذ الاتفاق السابق! ولـ"حنكة " معارضيه ، فقد ذهبوا للتوقيع على الاتفاق في تاريخ اختاره صالح بعناية، ويخصه شخصيا : 17 يوليو 2010 الذكرى الثانية والثلاثون لوثوبه إلى حكم الجمهورية العربية اليمنية في 17 يوليو 1978م. لقد كان الرجل، عموما، لا يحتفل باتفاق سياسي فحسب عاد إلى نقضه لاحقا ، بل بتفوقه على خصوم، يفتقدون لحساسية تقدير الوقت واللحظة  وينسون دائما أنهم في مواجهة من لا يمل من المراوغة منذ عقود .
ينجح صالح دوما في حرف مسار أي حدث عن جوهره، ولطالما كان قادرا على نقل الجميع الى معارك جانبية، تاركا المشكلة الأصلية على هامش معاركه . انه يبرع في افتعال المشاكل، وعندما يحاول الإيحاء بأنه يعمل على حلها  يحول الحل إلى مشكلة إضافية، صارفا الجميع عن معضلات كبيرة تراكمت طيلة عقود.
مع دخول الخليجيين على الخط؛ باتت أنظار الساحات وجهدها معلقا  على ما ستسفر عنه المبادرة أو لرفضها،ونسي الناس أو يكادون السبب الذي جاء بهم إلى الساحات وهي الثورة.
من مفردة وحيدة في ذيل مبادرة الخليجيين تسلل الرجل إلى ألعابه القاتلة، فقد وافق على توقيع الاتفاق بصفته رئيسا للمؤتمر الشعبي وليس رئيسا للجمهورية. كان يدرك أن الطرف الآخر لن يقبل، فتعثر التوقيع ليعود أمين عام مجلس التعاون الخليجي خائبا، وهو ما كان يتوخاه صالح، كاسبا المزيد من الوقت لتشتيت الثورة .
قبلها وفي مقابلة مع تلفزيون روسيا، كان الرجل يقول الشيء ونقيضه، فبينما اعتبر المبادرة الخليجية  انقلابا على الشرعية الدستورية ، كان يقول انه سيقبلها ، وهي مرفوضه في نفس الوقت لأنها تدخل في الشؤن الداخلية للبلاد!!
مع هذا التلاعب الواضح، بدا الخارج أكثر رضوخا لصالح ، فثمة تعديلات لا يبدو أن الأمريكان والأوربيين  بعيدون عنها، على أن نفسهم الطويل مع الرئيس ليس مقطوع الصلة بأداء المعارضة المذعن ، لذلك يتصرف الرئيس كما لو كان في موقع الرجل القوي الذي يملي إراداته على الجميع، رغم أن الواقع هو العكس تماما .
في  صيغة معدلة رابعة  تتبنى المبادرة الخليجية "مخرجا" آخر، فبدلا من ان يكون الرئيس هو المعني بالتوقيع وهو الأمر المنطقي لأنه هو المشكلة، فقد وضع الوسطاء تعديلا يجعل الموقعين 15 شخصا من طرف السلطة على رأسهم الرئيس يقابلهم نفس العدد من المعارضة.
حتى إن جرى توقيع الاتفاق بهذه الصيغة ، فلن يكون سوى مقدمة لمشكلة أخرى ستنتصب في التفاصيل،وفي التفاصيل يكمن الشيطان، كما يقال، فماذا لو كان "الشيطان" نفسه هو من يعبث بها !
تشكيل حكومة توافق يسمي الرئيس نصف أعضائها، كما ينص أحد بنود الاتفاق سيكون اللغم الأول الذي سيستخدمه صالح بفظاعة  لتفجير مشكلة من الحل نفسه !
سنشاهد طاقم صالح والمعارضة يتبادلان الاتهامات بخصوص تفاصيل كثيرة، وإذا كان احد البنود  ينص على قيام الحكومة بإزالة التوترات والاحتقان السياسي، فلن يجد صالح أفضل من هذا مستمسكا للتنصل من التزامه الرئيسي بالتنحي عن السلطة وتقديم استقالته إلى مجلس النواب.
لا يحتاج الأمر إلى التكهن فقد أعلنها الرجل صراحة انه إذا وقع على الاتفاق فيجب الالتزام بتنفيذه بندا بندا" كمنظومة متكاملة " كما يفضل هو الحديث عن الامر، وهو لا يعني إلا شيئا واحدا : إنهاء الاعتصامات  وعودة المحتجين إلى منازلهم. قطعا هذا لن يحدث، رغم أن الأوربيين والأمريكان لم يعودوا متحمسين لمنح أحزاب المشترك ضمانات ببقاء المعتصمين والمتظاهرين في الساحات،طيلة فترة تنفيذ الاتفاق.

بعيدا عن متاعب الاتفاقية وألغامها يمكنكم فقط استدعاء بعض الذكريات عن  مكايدات الائتلافات الحكومية منذ 90 وحتى آخرها في 97 بين المؤتمر والإصلاح، لتصور كيف يمكن أن يمضي الطرفان في شراكة تسوية اعقد مشكلة تواجه البلد، وحتى في ما يخص المسؤوليات الحكومية نفسها.
حينها ستحتاج المبادرة الخليجية لمبادرة أخرى "لإزالة العوائق أمام تنفيذ المبادرة السابقة"، وسيكون قد مر الكثير من الوقت في سجالات لا علاقة لها بالثورة، وهذه الأخيرة ستصبح شيئا هامشيا على طاولة أطراف الاتفاق وشركائهم الخارجيين، بينما اللحظة الثورية ستكون قد ألقيت  في  " فريزر" الفرقاء لنعود إلى زمن مهاترات " اتفاق فبراير"  العقيمة ، ونخشى أن نندب حظنا لأننا لم نمض في الثورة إلى لحظتها الأخيرة .
على الشباب ، خصوصا شباب الأحزاب  أن يكاشفوا أنفسهم تماما بالحقيقة : عندما قرر الناس الخروج لإسقاط النظام كانوا يعون المخاطر المحدقة بهم، وهناك المئات سقطوا شهداء وآلاف الجرحى. لكن الهدف الرئيسي للثورة لم يتحقق .
علينا أن نتذكر : بزخم شعبي اقل، وظروف أسوأ؛ تمكنت الثورة الشبابية  في مطلعها من إسقاط نصف نظام صالح، والآن وقد غدت الثورة حقيقة ماثلة في كل محافظات البلاد، بينما تقوى شوكة المطالبين برحيل النظام، لكنهم عجزوا أو توقفوا عن مواصلة مشوار النصف الثاني.
يراهن النظام على الوقت، وكلما طال زمن الثورة ، أمكن للنظام ترتيب نفسه، محاولا العودة بالجميع إلى ما قبلها، في معركة استنزاف للثورة، وسط أوضاع اقتصادية صعبة قد تشتت الناس عن الهدف الرئيس إن راوحت الثورة مكانها .
ستحتاج الساحات الآن وليس غدا إلى تقييم تجربتها وكيف تم إدارة اللحظة، لتدارك ما يمكن تداركه، وعليها أن تخلص إلى قرارت حاسمة بشأن مصير الثورة، دون أن تكون مضطرة لمشاورات  " حكماء " السياسة الذين كانوا طوال عقود مثالا سيئا للإذعان .
إذا كان الرهان الآن على ضمانات الخارج  للوصول الى تنحي الرئيس " بشكل آمن وسلس" فإنه خاسر لا محالة. لقد التزم الرئيس بالتنحي بحضور الأمريكان والأوربيين وحتى الخليجيين في بادئ الأمر، ونكث بكل ذلك دون أن يصدر عن "الرعاة" موقف محترم ضد صالح.
والآن يعاود الخليجيون الكرة، في مهمة لا يبدو أنها تضع اعتبارا لملايين اليمنيين في ساحات 20 محافظة أو يزيد، مقابل  مراعاة فائقة  لرئيس يقتل شعبه ويبدد ثروة البلاد، ويحاول إبادة الثورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق