الأحد، 20 مارس 2011

مهمة إلى الجحيم *



عبدالعزيز المجيدي
aziz.press7@gmail.com
في الرابع عشر من شهر آذار الماضي كان الجيش الإسرائيلي ينفذ مهمة عسكرية بدت اقرب إلى النزهة منها إلى العمل العسكري . لم يكن الهدف جديدا بالنسبة لجيش محترف. لقد كان كالعادة عربيا وكان فلسطينيا خالصا .
صباح يومذاك ربما لم يدر بخلد احد من جنود الاحتلال أن المهمة ستكون سهلة كما حدث .  كل ما كان في مواجهتهم : أسوار سجن ، وما يزيد عن 200 من رجال الأمن الفلسطيني بأسلحتهم الخفيفة وعدد مماثل أو يزيد من معتقلين وسجنا ء بينهم قائد سياسي فلسطيني يقبعون في " أريحا " تحت سيطرة أمنية للسلطة الفلسطينية.  تعين على الجيش الإسرائيلي وفرقه المكلفة باقتحام سجن أريحا انتظار أعمال الهدم لأسوار السجن ومباني المقاطعة وحسب ، وهو وحده الذي أخرإكمال المهمة بحلول المساء ، وتم اعتقال الأمين العام للجبهة الشعبية احمد سعدات الذي تتهمه  سلطات الاحتلال بمقتل وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زائيفي قبل ثلاثة أعوام.




واجه المشاهد العربي اهانة جديدة تابع تفاصيلها على الهواء : جنود يجردون من ملابسهم إلا من سراويلهم الداخلية، واستغاثات فلسطينية لم تفلح في إيقاف صفعة إسرائيلية لم يكن ضحيتها احمد سعدات فحسب. كان الفلسطينيون في المقدمة، وكان العرب شعوبا ودولا خدودا تعكس أصابع إذلال إسرائيلي مقصود .
بينت العملية أن رجال الأمن الفلسطيني لم يكونوا أكثر من معتقلين داخل السجن ببزات عسكرية ؟
بل إن حظهم من الإذلال كان أسوأ من المعتقلين  الذين كانوا في حراستهم . ولم تنطلق رصاصة واحدة حتى من قبيل : نحن هنا .
بالنسبة للفلسطينيين فليس ثمة جيش أو عتاد عسكري قادر على المواجهة، رغم أن تجربة صمود سابقة في جنين قبل عامين كانت درسا بليغا في المقاومة والتحدي . كل ما توفرت عليه السلطة الفلسطينية هو بضعة آلاف من قوى الأمن مكرسة لحمايتها، وسوى ذلك منطقة مفتوحة كل لحظة لاجتياح إسرائيلي متى شاءت سلطة الاحتلال.  التزمت السلطة الفلسطينية الحكمة بعدم المواجهة في أريحا -  ولها العذر في ذلك في ظل الاختلال الكبير في القوة بين الجانبين بل وانعدام أي وجه للمقارنة – وكانت حكمة كتلك مفقودة في غزة في اليوم ذاته .
رصاصات الأمن الفلسطيني صمتت في أريحا في مواجهة عدوان همجي لكنها كانت حية في غزة، إذ قتلت الشرطة الفلسطينية هناك مسلحا من أنصار الجبهة الشعبية . ثمة مبرر تراه السلطة مقبولا للعملية وهو داعي حماية الأمن . وتلك مزاعم لا تأخذ بها السلطة في غزة وحدها . إنها عدوى عربية تسوق ألف مبرر لتصويب أسلحتها الصدئة لصدور مواطنيها، فيما تلقم فوهات مدافعها سدادات صمت وفضائل حكمة في مواجهة عدوان خارجي.
لم يكن مشهد الإذلال الإسرائيلي وحيدا بالنسبة للفلسطينيين وهو ليس كذلك بالنسبة للمواطن العربي المقصوف دوما من الداخل قبل الخارج .
        انهيار جيش في غمضة 3 أسابيع    

حمل شهر آذار مارس الفائت الذكرى الثالثة لبدء الحرب الأمريكية على العراق، ويحمل ابريل الجاري ذكرى ثالثة أيضا لاحتلاله !
هي كذلك ذكرى ذوبان واحد من أكثر الجيوش العربية مقدرة ودربة على الحروب في غمضة ثلاثة أسابيع . مئات الآلاف من الجنود لم يبتلعهم، نهرا دجلة والفرات بالتأكيد وعشرات الآلاف من قطع الأسلحة المختلفة كدستها قيادة ديكتاتور مغامر انتهت إلى خردة في مزادات تجارها .
يتذكر المواطن العربي حتما تلك المشاهد المذلة للعراقيين : فقدت الشوارب المنكوشة قدرتها على بث الرعب ، والصدور المنفوخة كبرياءا كاذبا باتت ملقاة على قارعة أحذية المارينز.
ظهر القائد الملهم في قبضة جندي أمريكي بعد العثور عليه مختبئا في قبو، فيما تناثرت صور لمجاميع من أفراد الجيش العراقي بين مستسلم ينتظر " شوالات " أمريكية صممت على نحو خاص لوضع رؤوسهم فيها، وبين آخرون يخرجون عرايا من نهري دجلة والفرات مستسلمين . وبين هذا وذاك متضرع يرجو السلامة للنجاة بنفسه. بقيت بغداد وأبناءها تلعق جراح هزيمة صنعها قبل الأمريكان  طاغية ومازالت ساحة رعب ودم وأشلاء .        
ثبت أن الجيش لم يكن أكثر من مؤسسة خاصة بالرئيس.
ظلت الجيوش العربية آلة حرب بيد الزعيم القائد وكانت – وهي الآن كذلك – مكرسة لحماية كرسيه أولا وأخيرا .
وفي الوقت الذي مازالت المؤسسة العسكرية العربية تلتهم معظم موارد الشعوب باسم حماية الأوطان والدفاع عنها فان عقودا من الزمن لا تؤيد مزاعم كتلك.
لقد استدمت غالبا لحماية الحاكم وتأبيد بقائه على كرسي الوطن . باستثناء حالات نادرة فإن الجيش العربي لم يكن أكثر من مؤسسة قمع داخلي . حين تجاوز الجيش العراقي مهمته الأساسية في حماية الحاكم وقمع الداخل فانه كان يؤكد هيمنة مزاج الديكتاتور على حساب المصلحة الوطنية وتعبير عن حالة الاستلاب التي وصل إليها إذ نفذ مهمتين شكلتا علامتين فارقتين في تاريخ المنطقة :
دخل في حرب مع إيران تلبية لحسابات دولية، استمرت ثمانية أعوام خلال مرحلة ثمانينيات القرن الماضي  ولم يكد يلتقط أنفاسه لعامين في استراحة محارب حتى تبين " للرئيس الملهم " أن الطريق إلى القدس يبدأ من الكويت فغزا بلدا عربيا مجاورا في أغسطس 1990، وفي الحالتين فان الرجل كان يرضي هوسا شخصيا بالزعامة ويخوض بحماقة حقل الغام ظن لوهلة أن ضوءا اخضر من قطب دولي حاسما لسيطرته ، فوقع وأوقع بلدا مكتنزا بالتاريخ والحضارة والثروة في فخ بدا بالكويت لينتهي ببغداد تحت سنابك الاحتلال.
بالنسبة للجيش العرقي فقد سلبه الديكتاتور ومن سبقه عقيدته العسكرية الوطنية، وكذلك يفعل حكام كثر باسم الأوطان إذ يعيدون صياغة أهم واخطر مؤسسة في الدولة وفق أجندتهم السياسية وحسابات البقاء على الكرسي، بفضلها يذهب الوطن إلى الجحيم ويبقى القائد .
             فخ الاستقلال والاستعمار البلدي
منذ ظهور حركات التحرر واندلاع الثورات العربية ضد الاستعمار والأنظمة المتخلفة-ط، لم يكن العرب يؤسسون لمرحلة حديثة من الحكم . لقد كانت شرارة صراع جديد بلباس مختلف ظل الحكم هدفها ، وظلت القوات المسلحة وسيلتها . وبقيت المنطقة العربية مثخنة بتخلف يحتفظ لها بمركز متقدم في قائمته .
كانت القوات المسلحة وقودا دائما للصراعات، يرحل القائد السابق مشيعا بالخيانة والعمالة وأقذع الأوصاف ليأتي قائدا جديدا بألقاب إضافية . على هذه الوتيرة كانت الحكومات خصوصا الثورية منها، تلتهم البلاد في دورات صراع " لحماية الثورة " نفسها !!
كان طبيعيا أن تصبح التنمية شيئا هامشيا بالنسبة لأنظمة كرست كل شيء : السياسة والاقتصاد لخدمة نوايا الحاكم ومزاجه المسكون بالمؤامرات .
فجندت هذه الأنظمة موارد وثروات الشعوب لبناء أسوار الهيمنة الداخلية ، وكان طبيعيا أن تكون المؤسسة العسكرية والأمنية وسيلة الحاكم للقمع وتثبيت الاستبداد. وكانت "الأسود  علينا " "نعامات ونعاج" عندما تجد نفسها في مواجهة أي عدوان خارجي .
                        "حرب أبناء النظام"
في الحرب الأخيرة التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على العراق، لم تكن المواجهة بين جيشي بلدين . ثمة فارق هائل لا يمكن إغفاله على مستوى العتاد العسكري، غير أن الأمر المهم هو أن الأمريكيين كانوا " يواجهون أبناء النظام دون غيرهم "  على حد تعبير غسان سلامة وزير الثقافة اللبناني الأسبق .
كرس نظام صدام الولاء للقائد في صفوف  الجيش وقوات الأمن وأجهزة الاستخبارات، ولم يكن الوطن سوى ملحقا خاصا به . عهد إلى أقاربه وأبنائه قيادة أهم قطاعاته، بينما استمرت التصفيات بين أفراده أولا بأول وفقا لمحدد الوفاء "للقائد " وتاليا حزب البعث الذي انتهى مختزلا في شخصه.
عند المواجهة لم يحتمل أفراد الجيش المقصوف من الداخل بالسيطرة الأسرية القصف الأمريكي وحممه المهولة، ومثلما كان العراق غائبا في بنائهم العسكري فقد كان أيضا غائبا عند المعركة.
التهم الجيش العراقي مئات المليارات من الدولارات لخدمة نظام صدام ، وعاد العراقيون بفضل سياسة "القائد" عقودا من الزمن إلى الوراء: وطن مدمر وإنسان مشوه من الداخل، ودولة في قبضة الاحتلال تقف على مفترقات طرق أسوأها تلك التي ظل النظام يزرع أسبابها فترة حكمه : الحرب الأهلية .
كانت تلك تبعات حكم رفض كل خيارات نقل بلده إلى مرفأ الأمان، بانتهاج وسيلة سلمية لإدارة الصراع على السلطة، وظل متربصا بالجميع خوفا من فقدانها ، وتلك مشكلة عربية أخرى لم تثمر الثورات حلا ناجزا لها ، رغم ما وفرته نتاجات الفكر الإنساني من بدائل حضارية، لتنظيم الصراع والتداول على كرسي الحكم .
لقد عكست عقلية الحكم العربية نفسها على جوانب التنمية ، وفيما ظلت وفية لفقرها المدقع في إنتاج الأفكار الخلاقة، كانت سببا لتفاقم أوضاع بلدانها على أصعدة شتى : في عصر الكمبيوتر وثورة المعلومات، مازالت الخارطة العربية حاضنة لـ 65 مليون أمي لا يعرفون القراءة والكتابة. ورغم الثروات الهائلة فإن ثلث المواطنين العرب يعيشون على دخل أقل من دولارين يوميا .
بحلول عام 2010 سيصل معدل البطالة في المنطقة العربية الى 25 مليون عامل. لقد أدى غياب المؤسسية وشيوع الفساد والممارسات لمراكز السلطة في بعض البلدان العربية إلى هروب الاستثمارات إلى أنحاء مختلفة من العالم . ووفقا لآخر التقديرات فإن هناك أكثر من 3 تريليون دولار هي قيمة الرأسمال العربي المهاجر بحثا عن فرص آمنة للاستثمار في أنحاء مختلفة من العالم، حيث قوة المؤسسة والقانون أكثر حضورا من قوة الأشخاص المدججين بالسلطة وطلبات التقاسم والمحاصصة .
               موازنات  أكثر سيادة أقل

لقد كانت المؤسسة العسكرية العربية ومازالت أداة مطواعة في يد الحاكم على أن تضخمها على حساب المؤسسات الأخرى يظل أكثر حضورا في الموازنات المعلنة للدول .
إن إنفاق دولار واحد لاستيراد طلقة رصاص هو بالتأكيد بذخا غير مرغوب به في دول تنتشر فيها الأمية والبطالة والفقر. بل إنها مصادرة رسمية لحق طفل في الصحة والتعليم والغذاء . والأمر بالنسبة للدول العربية، ليس مرتبطا بملايين معدودة من الدولارات. إنها نفقات مهولة في الدول الأقل دخلا والأكثر فقرا. لقد تضمنت الموازنة العامة للدولة في اليمن مثلا للعام 2006م ارتفاعا كبيرا لنفقات الدفاع والأمن بنسبة 27% عن العام الماضي، وفي بلد كهذا يحتل المرتبة الـ 151 في دليل التنمية البشرية للعام الماضي فإن 101 مليار ريال إجمالي الزيادة هذا العام كانت يمكن أن تكون أداة فعالة لمكافحة الفقر وتحسين الخدمات الصحية المتداعية، وبناء منشآت تعليمية جديدة . لكنها جاءت على نحو أسوأ، وعلى حساب مخصصات مهمة في الموازنة ذاتها، إذ تراجعت بالنسبة إلى التعليم من 21,85% العام الماضي إلى 15,6 % هذا العام ، وكذلك الأمر بالنسبة للصحة ، إذ تراجعت مخصصات الصحة من 5% العام الماضي إلى 3,9% في موازنة العام الجاري . إن إنفاق 274 مليار ريال على الدفاع والأمن في اليمن ذات التنمية البشرية المنخفضة جدا لا يشجع البتة على التفاؤل بتنمية منتظرة في بلد هو أحوج ما يكون لوسيلة تعليمية أكثر من الصاروخ . لكن الأمر يبدو بعيدا عن صلاحيات مخططي التنمية بافتراض وجودهم أصلا !!
 علق نواب حين أقرت تلك النفقات بأنها موازنة حرب، غير أن بلدا كاليمن تقول قيادته إنها أنهت كل ملفات الخلافات الحدودية مع الجيران – بافتراض إن الإنفاق العسكري مخصص لاحتمالات اشتعالها – فلمن كل تلك الموازنات إذا ؟
بتراكم الخبرة التاريخية بالدولة العربية التسلطية فإنها وحدها من اثبت أن الإنفاق العسكري العربي لم يكن ذي جدوى بقدر ما كان عبئا على كاهل المواطن العربي وحقه في لقمة العيش بدلا من ترسانة الأسلحة التي لم تحم حدودا ولا ذادت عن كرامة مواطن .
فشلت الحكومات العربية حتى في تبرير هدرها  لموارد البلدان وثرواتها، وبات  وهم " الدفاع " عن الأوطان وحمايتها واستقلالها كسبب تسوقه تلك الأنظمة لذلك السفه في الإنفاق العسكري صعب التصديق لدى المواطن العربي . وتبدو مبررات كتلك مكشوفة من أي سند على الواقع .
بحسب البيان الصادر عن المؤتمر العربي الثالث المنعقد قبل عامين في بيروت، فإن معادلة الأمن والقوة في المنطقة شهدت إختلالا شديدا في السنوات الماضية، وفيما كان الإنفاق العسكري العربي متزايدا ، كان الأمن القومي العربي وحال الاستقلال في تناقص، وكانت حالة التبعية في وضع يكاد يصبح هو القاعدة لدى الكثيرين ".

          صفقات مهولة لم توقف " نزهة اولمرت "
يوم 14 مارس الماضي لم يفلح الإعلان عن صفقة عربية لشراء مقاتلات بريطانية في فرملة اجتياح " أريحا " الفلسطينية ، بل كان مشهدا دالا على فداحة الهدر العربي للثروة دون طائل سوى المساعدة على  تدوير مصانع الأسلحة الغربية . كانت دبابات "اولمرت" تحيط بسجن أريحا فيما كانت مذيعة نشرة الأخبار الاقتصادية بقناة الجزيرة تقرأ خبرا عن توقيع صفقة شراء طائرات للمملكة العربية السعودية من بريطانيا بقيمة 14 مليار دولار بعد أن كانت ذاعت أنباء عن قيمة تصل إلى 70 مليار دولار .
الجزء الباقي في الخبر هو تلك الطائرات السعودية المحلقة بالصفقة وعددها مائتي مقاتلة خرجت عن الجاهزية – لا احد يعلم أي حروب خاضتها – أرفقت بالمبلغ لبريطانيا التي ربما تعيد إنتاجها فتعود لبيعها بعد الخدمة في سلاح الجو البريطاني لذات البلد!
تنفق المملكة العربية السعودية 13% من ناتجها المحلي في المجال العسكري ، وهي نسبة تقترب كثيرا من تلك المخصصة للتعليم والصحة معا والبالغة على التوالي 8% و7% ، وحجم الإنفاق كهذا بالنسبة للسعودية التي تصدر أكثر من 10 ملايين برميل نفط يوميا ليس باليسير إطلاقا.
 لم يخض جيشا عربيا مواجهة مع عدوان أجنبي – عدا حرب اكتوبر 1973- وإن فعل فقد قدم نوذجا مذلا للعسكرية العربية . إن الارتفاع المستمر في النفقات العسكرية هو بالاساس لم يكن موجها للدفاع عن البلدان ، وزيادة على ذلك فإنه يوفر مليارات الدولارات لسماسرة وحكام ، فضلا عن أن دولا لا تنفق على السلاح إلا تجنبا لسخط ربما يتعرض له بعض الحكام من دول عظمى .
لقد بات الأمر للبعض ورقة للمراضاة السياسية . فكلما ارتفعت عقيرة دولة كأمريكا أو بريطانيا بالتنديد بممارسات الحكم أحيانا فإن السلطة العربية سرعان ما تكبح ذلك بعقد صفقة سلاح . انه أمر يشبه المقايضة ، يقدم عليه الحاكم لحماية نفسه لا البلد الذي يبدو خاسرا في جميع الأحوال .
والأمر لا يخلو من مكاسب مالية ضخمة أيضا للحكام وأقاربهم وزبانيتهم .

               أنظمة الثقب الأسود
نحت تقرير التنمية البشرية العربي للعام 2004م وصفا أطلقه على الدولة العربية هو : دولة الثقب الأسود، واعتبرها " التجلي السياسي للحالة الفلكية حيث يحول المجال الاجتماعي المحيط به الى ساحة لا يتحرك فيها شيء ..." إنها دولة الحاكم المطلق ، تخنق فيها الحريات وتتعزز السيطرة القمعية .
نموذج الحكم السائد في الدولة العربية القائمة هو ذلك الذي يكرس كل السلطات بيد الحاكم ، وأحيانا أقاربه .
هذه الدولة تنعدم فيها فرص المشاركة الشعبية الفعلية في صناعة القرار والرقابة عليه.  بل إنه في أبشع صوره حول البشر والأرض إلى ملك خاص يتصرف به الحاكم أنى شاء !
في هكذا بيئة يمكن ممارسة  أسوأ أنواع الفساد والنهب ببساطة .
قبل حوالي خمس سنوات نشرت مجلة المشاهد السياسي اللندنية تقريرا عن الثروات التي كونتها أسرة حاكمة عربية .
في طوايا التقرير قالت إن جهاز الاستخبارات الأمريكية السي آي إيه التقط مكالمة لأمير عربي معني بشؤون الدفاع في بلده مع سفيرهم في واشنطن بشان صفقة سلاح وكانت طائرات إف 16 . وفق ما نشر فإن الأمير كان يحث السفير على المماطلة في تأخير الرد النهائي عن توقيع الصفقة . ولم يكن ذلك حرصا على البلد لتوفير مبالغ طائلة . لقد كان مضمون التوجيه : ماطل حتى تحقيق أكبر مبلغ من العمولة !
وسواء كان ما نشر تسريبا لابتزاز اكبر أو هي الحقيقة فإن مواطنا عربيا واحدا لا يستطيع السؤال : كيف ، ولماذا، وأين ، ومن يراقب ذلك الإنفاق؟
                 "أسئلة محرمة "
إن أسئلة كتلك محرمة وهي تتعلق بالأمن القومي للبلد  (!!) وإطلاقها مدعاة لفتح أبواب الجحيم . لقد حصدت الأنظمة العربية فشلا ذريعا  على مختلف الصعد : تنمويا ما تزال تتشبث معظمها بذيل قائمة التنمية البشرية في العالم ، والمؤكد أن أوضاعا اقتصادية تعد بعاطلين جدد خلال سنوات قليلة ستحرك الرقم الى 25 مليون عاطل، ليست في وضع مشجع، فيما أخفقت سياسيا في تحقيق استقرار داخلي دائم ، وأبقت الصراع على السلطة مفتوحا أمام خيارات العنف، مفضلة السير في طريق التحايل على الشعوب بشعارات طنانة .
وهي إذ فتحت صنابير المال العام ببذخ للإنفاق العسكري فقد عجزت عن تجنيب بلدانها تبعية باتت مسيطرة ، بل إن أجزاء من الوطن العربي بفعل تلك السياسات انضمت الى خارطة الاحتلال.
والواقع أن المؤسسة العسكرية العربية كانت ضحية حسابات شخصية حيث انحرفت عن أداء وظيفتها الأساسية في حماية الأوطان وسيادتها، لتتحول بعيدا كما القرار السياسي العربي إلى خدمة الأشخاص والحكام.
الراهن العربي ما يزال حافلا بعبر تظن الأنظمة أنها قادرة على تجاوزها باستمرار الالتفاف على المطالب الملحة للشعوب . إنها المصيبة الأعظم، إذ وضعت البلدان شعوبا وجيوشا رهنا لمستقبل أشخاص.
سقطت ديكتاتوريات ، أنهارت جيوش وأنظمة ، وقدمت السياسات المهجوسة بدوام الكرسي، الأوطان أرضا جاهزة للاحتلال، ولا متعظ رغم المصير المأساوي للجميع .
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مجلة نوافذ  يونيو – 2006م           

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق