الاثنين، 10 أكتوبر 2011

قاتل في عهدة المملكة



عبدالعزيز المجيدي
 aziz.press7@gmail.com



يبدو أن صحة صالح باتت مهمة جدا للنظام السعودي. فقلق الرياض البالغ على صحة رجلها المخلص يرقى إلى مستوى الخوف من الثورة نفسها في اليمن ، لذلك هرعت الشقيقة الكبرى بخبراتها الطبية إلى صنعاء لمتابعة حالة المحروق للتأكد من قدرته على البقاء ناشبا في حلق بلد يطلب الحرية والكرامة .




لكن «أمير» صنعاء لا يريد أن يثير هلع «الإنسانية المتكرشة» في الرياض وقد اثبت عمليا انه قاتل محترف، يستطيع معاقبة المحافظة التي تثير سخط الرياض بأسوأ ما يمكن أن يفعله سفاح يمتلك قوات عسكرية فتاكة.
لعله قدم عرضا مرضيا لأسياده عندما كان يضع أكثر من 2 مليون مواطن في المدينة في فوهة قذائفه الغادرة. فأمطر تعز بأسلحته الثقيلة من كل صوب كمجرم حرب متمرس، مرتكبا مجازر مروعة .
لقد حول صالح شوارع وأحياء تعز إلى ميدان حرب مفتوحة لا تحتكم حتى إلى قوانين الحرب نفسها، وكانت كتائبه تقصف كل شيء يتحرك، فقتل وأصاب أكثر من 160 شخصا بينهم كثير من الأطفال والنساء،، مستهدفا المستشفيات والطواقم الطبية، مانعا محاولات إخلاء الجرحى .
لدى صالح عقدة مزمنة من هذه المحافظة، ودائما ما تستيقظ أمراض رجل لم يحصل على الحد الأدنى من التعليم كلما لاحت له تعز كشجرة وارفة تمد البلاد بالكفاءات والسياسيين والمثقفين وقد أيقن الآن أن كل محاولاته التدميرية للمحافظة لم تخمد جذوة الممانعة، حتى وان تمكن لبعض الوقت من استخدام بعض نخبها كقفازات وجوارب في معاركه الخاصة .
لكن تعز لم تكف عن لعب دورها كمحافظة ولادة لطلائع التغيير، فكانت قاطرة الثورة الشعبية وركنها الشديد.
تتذكرون بالطبع حالة الهلع التي انتابت الرجل في الأيام الأولى للثورة ، حينها حاول الاستعانة بخبرته كشخص اعتمد طيلة حكمه على إثارة الانقسامات بين اليمنيين، فروج للخطر «التعزي» القادم ، محذرا الحزام القبلي المحيط بالعاصمة من أن «البراغلة» يريدون الاستيلاء على السلطة وهي الورقة المناطقية التي ارتدت إلى نحره، فهيجت اليمنيين بكل مناطقهم وانخرطوا في ثورة شعبية غير مسبوقة .

وكما هو شأن صالح فقد كان للرياض ثأرها الخاص أيضا، فتعز هي المحافظة التي عبرت بصورة علنية عن رفضها للوصاية السعودية، وواظب المتظاهرون على توسيع نطاق الاحتجاج ضد المملكة بوسائل مختلفة بينها إحراق دمى للمك.
بالنسبة لرجل يوشك على السقوط، لا يمكن أن يقدم على ارتكاب أبشع الجرائم بحق المدنيين، ما لم يكن يتكئ ولو إلى القليل من الثقة بأنه يحظى بالحماية . فبعد إفلاته من تداعيات مجزرة جمعة الكرامة في مارس الماضي على الصعيد السياسي والحقوقي أشعل القاتل نفسه النار بالمحتجين عندما اقتحم ساحة الحرية بتعز في أفظع الجرائم التي شهدتها الثورة اليمنية،. وكانت الرياض في كل الأحول تناهض أي محاولة دولية لإدانة جرائم حليفها المدلل، كما فعلت أكثر من مرة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ، مكرسة كل نفوذها وتحالفاتها الدولية لخدمة صالح .
اندماجا في ذات السياسة، لم تتردد الرياض في إظهار دعمها ومساندتها في أكثر اللحظات دموية وترويعا لليمنيين، فبينما كانت الصورايخ وقذائف المدافع والآر بي جي تتجول بين صفوف المحتجين بصنعاء نهاية الشهر الفائت، في مشهد مكرر لمجازر القذافي، كان الملك السعودي يبارك ذلك باستقبال لافت للرجل الذي يجاهر بالحديث إلى شعبه من قلب ما سماها «العاصمة السياسية» الرياض !
وقبل الحرب الوحشية على تعز بساعات كان صالح يتسلم رسالة من الرياض، ويستقبل طاقما طبيا سعوديا جاء لمتابعة حالته الصحية استمرارا للعناية السعودية الخاصة برجلها الذي كاد يقضي في هجوم غامض على قصره بصنعاء مطلع يونيو .
حتى وان بدت رسالة مجاملة على ما أوردته الوكالة الحكومية، فان الحرب الجهنمية على المدينة ربما تشير إلى تفسير من نوع ما سيما وان المدينة شهدت تظاهرات منددة بالموقف السعودي المناهض للثورة .
لم يسبق لتعز أن واجهت كل هذه الهمجية والترويع ، فالقصف بمختلف الأسلحة الثقيلة طال معظم أنحاء المدينة، وكانت كتائب صالح تخوض حربا كاملة من طرف واحد ضد المدنيين العزل، والأحياء السكنية المأهولة .
حتى في حالة الحرب يتعين على أي قوة عسكرية الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، حيث يحظر تعريض حياة المدنيين للخطر، ويعتبر خرق ذلك ضمن جرائم الحرب.

لم تتصرف قوات صالح حتى كجيش احتلال، فكل شيئ كان مستهدفا عشية الأربعاء الفائت بما في ذلك المستشفيات في أطول مساء مرعب مر على تعز حتى الآن، فضلا عن تحويل بعض المستشفيات الحكومية إلى ثكنات عسكرية بصورة دائمة ، واستهداف البعض بالقذائف في جرائم صريحة ضد الإنسانية .
لا يمكن تصور أن صالح يرتكب كل تلك الجرائم على مرأى ومسمع من العالم دون أن يتوفر على غطاء إقليمي ودولي. وأفضل من يفعل ذلك هو ذات النظام السعودي المفوض أمريكيا بالملف اليمني. لذلك كان توفير الحصانة لصالح وعائلته من الملاحقة القانونية عن الجرائم الجنائية والمالية هي الجائزة التي وفرتها السعودية لحلفيها في ما سمي بالمبادرة الخليجية .
لكن الصفقة التي تضمنتها حتى الآن كانت تركز بصورة رئيسية على استدراج المعارضة للتوقيع عليها دون ان يتحقق الشطر الثاني المتعلق بتنحي صالح وقبل ذلك توقيعه عليها.
خلافا لذلك حظي صالح وأولاده بالمزيد من الوقت وحرية الحركة بتواطوء دولي وإقليمي لم يعد خافيا، وضاعفوا أعمال القتل ضد المتظاهرين ، وشنوا حروبا متعددة على الشعب، وهم منهمكون اليوم في تطوير وسائل القتل ويتلقون المال والسلاح من أطراف خليجية .
اخطر ما يبدو أن الصفقة ذاهبة إليه: إعادة اقتسام السلطة مع ورثة صالح تكريسا لما حاول الرجل ترويجه عن صراع بين ذات الإطراف التي كانت شريكة في الحكم ، في مشهد مهين لليمنيين الذين يقدمون أرواحهم طلبا للانعتاق من كل تفاصيل عهد صالح الكريه.
هذا المسار يعيد البلاد مجددا إلى مرحلة المحاصصة والقسمة بين نخبة الحكم نفسها، وهو تكرار للالتفاف على ثورة سبتمبر بالتسوية التي توثقت عام 1970 وتدشين حقبة الهيمنة السعودية المتطاولة على البلاد.
لكن ما لم يفهم حتى الآن استمرار المعارضة في المبادرة الخليجية رغم رفض صالح التوقيع ، كما لو كان لسان حالها يقول للرجل : اقتل وانهب ما تشاء ، فلديك دائما مخرج آمن للإفلات من العقاب. إن صالح يحظى بشي من المؤازرة الضمنية ، ليبدو كما لو كان الضحايا من شباب الثورة وحدهم خصمه.
على المعارضة أن تدرك أنها بهذا النهج توفر غطاء لجرائم صالح، وهو ما يجعلها في صورة الشريك في تلك الجرائم،إن لم تنسحب من المبادرة.
لقد باعت المملكة للمعارضة اليمنية الوهم ، فالشيء الوحيد الذي تغير في موقف النظام هناك هو أن الدعم الواضح لصالح بعد مغادرته الرياض أصبح من تحت الطاولة.
هذا ما يحدث بالفعل حتى لو شاهدنا ارتفاعا في سخونة البيانات الخليجية ضد صالح فلا تعدو أن تكون شكلا من المناورة السياسية للتخفف من الضغط السياسي والإعلامي.
لأسباب لها علاقة برهاب الثورات، لن تكف بعض تلك الأنظمة عن إعاقة الثورة اليمنية، فكيف إذا كان الأمر متعلقا بمصير حاكم تصرف ببلاده برا وبحرا وجوا على نحو مدمر، وانتهج سياسات مرضية لأطماع بعض الأنظمة الحاكمة في الخليج وحلفائهم الكبار.
لكن إذا كان صالح قد حسم أمره وأراد أن ينتهي كما بدأ، رجلا مخلصا للرياض التي جاءت به إلى الرئاسة كما هو معروف ، فقد حان لكثير من الأطراف التي أعلنت مساندتها للثورة أن تحزم أمرها أيضا لتعي أين تقف بالضبط من صالح .
فلم يعد منطقيا ولا مقبولا أن يرتبط الكثير بعلاقات خاصة مع النظام السعودي كما لو كانوا يخوضون تنافسا من اجل الوقوف في نفس المكان المعادي للثورة مع صالح .
لعل الخيارات الآن محدودة وضيقة تماما : فإما الوقوف مع اليمن بصورة قاطعة ونهائية ، أو البقاء في ذات المنطقة الملتبسة حيث يكون الجميع منحازون للخيارات السعودية، استمرارا للعبة النفوذ السعودي.
تتمتع هذه الجارة المؤذية بقوة نافذة في الشأن اليمني، هذا صحيح ، لكن الثورة إن لم تستطع الوقوف بصرامة للحد من هذا النفوذ المضر ستصبح عاجزة عن إحداث أي تغيير جوهري.
هذا لا يعني أن علينا معاداة النظام السعودي. كل ما في الأمر يجب أن يفهم هؤلاء أن زمن وصايتهم على اليمن ينبغي أن يزول على وجه السرعة ، وان الوقت قد حان لعلاقة تكافوء وندية بعيدا عن شبكة اللجنة الخاصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق