الثلاثاء، 20 أكتوبر 2009

كي لا تزدهر صناعة التوابيت

عبد العزيز المجيدي
                                          

عاجلا أم آجلا سنشاهد السلطة والحوثي يلتقيان وجها لوجه، ليس على ارض المعركة بل على طاولة الحوار. هذه هي الخاتمة المتوقعة التي سيؤول إليها المشهد الملتهب الآن بكل أشكال الحشد والتثوير. بكل بساطة ستختفي هذه المعارك المصاحبة في أجهزة الإعلام ، وسنرى ببساطة اشد  جميع دعوات الحسم العسكري وقد أصبحت " تثمن القرارات الحكيمة والرؤية الثاقبة للقيادة السياسية " .
في الميدان ليس هناك ما يشير إلى أن الحسم سيكون في المتناول. وبمقارنة أول بيان عسكري مع بدء المواجهات مع آخر بيان عن سير المعارك فان خارطة المواجهة لم تتغير.  مازالت المواجهات تدور بين الجيش والحوثيين في نفس المواقع ، ومؤخرا باتت بيانات الجيش تخصص جزءا كبيرا من تغطيتها الميدانية  للحديث عن صد هجمات للمتمردين.


ربما كان بمقدور الجيش في جولات سابقة ، تحقيق مستوى من  الحسم في الميدان بحيث تصبح مناطق المواجهات محدودة  وتقتصر على المعاقل الرئيسية للحوثي وجماعته، كما حدث في الجولة الأولى التي انتهت بمقتل  القائد الميداني للجماعة حسين الحوثي. لقد تضاءلت الأهداف الآن كما هو واضح في الإعلام الحربي للجيش، وبات الإعلان عن مقتل عناصر تابعة للحوثي كما لو كان هو الهدف الذي انتهت إليه المعركة .
يدرك القادة السياسيون قبل العسكريين أن الحسم العسكري لأي حرب ضد جماعة  تنتهج حرب العصابات ليس أكثر من مقامرة. وبالنسبة لجماعة تحظى بكل هذه الظروف التي تحيط ميدان المعركة في صعدة وحرف سفيان فان إخضاعها يرقى إلى مستوى المستحيل.
هناك جماعة عقائدية نشأت وترعرت برعاية السلطة ضمن طريقتها المفضلة لإدارة الصراعات السياسية: ضرب الخصوم ببعضهم. لقد قيل في هذا الأمر الكثير وهو مع صحته فانه لن يكون أكثر وضوحا من اعتراف الرئيس بدعم نواة هذه الجماعة ماليا قبل أن تصبح مصدرا لقلق كبير ليس على النظام الجمهوري أو الثورة بل على كرسي الحكم.
لكن ذلك ليس سر هذه الشراسة التي تبديها الجماعة في مواجهة الجيش. هناك جغرافيا صعبة ومعقدة، وهناك عقود طويلة من النسيان  الحكومي كشيء وحيد نما وازدهر في المحافظة ، وجاءت الحروب الست لتضيف مزيدا من التعقيدات . وجميعها  تصب لصالح مراكمة المزيد من الصعوبات في طريق الجيش.
للمزيد من  التحقق من المسألة يمكن الاستعانة بأهم تقرير على الإطلاق  قرأ هذه الأزمة الخطيرة  بأبعادها المختلفة .
يتحدث تقرير مجموعة الأزمات الدولية وهو تقرير لباحثين أجانب ويقرأ هذه الحرب الضروس في صعدة بدرجة بالغة من الحيادية  عن مشاكل كثيرة عقدت ميدان المعركة .
يقول التقرير إن الجماعة التي تقاتل إلى جوار الحوثي ليست جميعها عقائدية، فهناك" مظالم"  لمواطنين نشأت عن  "الاستخدام العنيف للقوة المسلحة " من قبل الجيش أدت إلى قصف منازل مدنيين، ودفعتهم للانضمام إلى الحوثي  ثأرا من الدولة. إلى ذلك هناك ما يسميه التقرير اقتصاد الحرب الذي جعل من استمرارها مصلحة للكثير "من الضباط وشيوخ العشائر" .  ومع ذلك فالواقع أن الجيش يعاني أيضا على مستويات مختلفة  بفعل حرب أخرى لا علاقة لها بميدان المعركة .
تصوروا هذا المشهد:  في ذروة المعارك فر قائد إحدى الكتائب برواتب أفراده الذين يواجهون الموت، واضطر هؤلاء لبيع أسلحتهم ومغادر المعركة . هذه ليست رواية  نسجها الحوثيون للنيل معنويا من  الجيش، بل سردتها وكالة رويترز قبل شهر في مستهل تقرير لوكالة التنمية  الدولية عن حجم الفساد في اليمن.
إن استحالة الحسم العسكري لا تعني نجاح الحوثيين في التوسع والانتشار، خارج الخارطة التي دارت عليها أول جولة مواجهة، بل إن الأمر حصاد تركيبة متعاضدة من الإخفاق الحكومي في إدارة الشأن السياسي والتنموي للبلد.
حين تتحدث السلطة  بعد كل هذا الزمن من عمر الثورة والجمهورية عن محاولة جماعة على ذلك النحو الذي يحدث في صعدة لإعادة الإمامة ، فإنها لا تفعل أكثر من إعلان فشلها  المريع  في إدارة البلد.  كم هو معيب بحقنا كيمنيين أن نعود مجددا بعد 47 عاما إلى مربع صراع " الجمهورية والإمامة " . ماذا كانت تفعل هذه السلطة التي اختلت بثلثي عمر " الثورة والجمهورية " ؟ لا شك إنها مسؤلة عن الوصول إلى هذا التردي.
نحتاج كيمنيين لان نقرأ الأمور كما هي دون مواربة . وعلينا أن ندرك أن هناك سببا اكبر من كل ذلك الهراء الذي يقال لتسويق الحرب والموت  بدثار المصلحة الوطنية  وحماية " الثورة "  و" الجمهورية" حيث آلت هذه الأخيرة إلى مجرد اسم لذكريات قديمة لا أكثر.
عندما تستيقظ "الآثام" القديمة فان ذلك يعني أن هناك " آثاما" لا تقل سوءا تحكم قبضتها على واقع الأمر. ولئن كانت الدعوة للإمامة تثير كل ذلك الاستقطاب في صعدة فان ذلك يعني أن أداء "الجمهورية"  في صنعاء لم يكن مقنعا بما فيه الكفاية كي تتخلى " آثام" الكهنوت " عن أحلامها المندثرة. لكن هل هناك جمهورية في صنعاء أصلا؟
يبدو أن الوقت قد فات على تحقيق فكرة " الحسم العسكري" للقضاء على الحوثيين . سيكون أمرا سيئا بقاء هذه الجماعة كقوة مدججة بالسلاح مناظرة لقوة الدولة المفترضة . ذلك سيحتاج جهدا وطنيا كبيرا لنزع سلاحها من خلال الحوار، لكن الأسوأ من ذلك هو أن تستمر صناعة التوابيت  كشيء وحيد مزدهر يجيده اليمنيون.
الآن يدخل الجيش شهره الثالث بحثا عن مكاسب ميدانية تبدو صعبة وباهظة الكلفة. مع ذلك فإننا وسط مشهد مثير للسخرية ، فبرغم التشيع الكاسح لفكرة الحسم، هناك إعلام رسمي هو أكثر من يروج  للتقليل من شان قدرة الجيش.
يحدث ذلك عندما تحاول  آلة الإعلام في شكل دعائي التقليل من  حجم جماعة الحوثي باستخدام مسميات "الشرذمة ، عدد من المغرر بهم... الخ "بينما هي لا تقول للناس الحقيقة، وتغدق عليهم بالكثير من وعود السحق والحسم والتطهير. هل تريد أن تقول ضمنيا أن الجيش أصبح ضعيفا بالقدر الذي يجعله عاجزا عن تحقيق انتصار على تلك " الشرذمة" ؟ 
ببساطة يوما ما ربما يكون قريبا  ستقف الحرب وسيجلس الطرفان على طاولة  حوار واحدة . هكذا ستنتهي الجولة السادسة شئنا ذلك أم أبينا. علينا أن نتذكر جيدا أن حسابات الساسة لا علاقة لها بالمبادئ والشعارات ، وهي أكثر التصاقا بمبدأ المكسب والخسارة لصالح أجندة محض شخصية ، وأحيانا تتضاءل الأهداف خلف الحروب الكبيرة  فيصبح تقليل حجم الخسائر في هذا الحال مكسبا! وفقا لهذه المعطيات فإننا سنسمع لا حقا  أن الحوار يجب أن يكون هو السائد "تغليبا للمصلحة العليا للوطن" . 
 هناك المئات من القتلى والجرحى يسقطون يوميا من الطرفين ، وهناك أكثر من 150 ألف نازح معظمهم من الأطفال والنساء يعيشون  ظروف كارثة إنسانية . إن الوعد الوحيد الذي تحقق من الحرب حتى الآن هو الدمار والمزيد من الدماء والكثير من المخيمات والمتاعب لبلد متعب. لقد أفضى اللعب السخيف على إثارة النقائض الإقليمية وإقحامها في الحرب  لمقاصد رخيصة إلى  تحويل جزء من جغرافيا البلد إلى نسخة مشابهة للبنان. في هذه الحرب  المشتعلة الآن  تحديدا  أصبح  الحضور الإقليمي أكثر وضوحا . من الآن وصاعدا علينا  أن نعيد ضبط إيقاعنا الداخلي على مقياس بعض العواصم الإقليمية،  فأي  لقاء أو تنافر بين مثلث الرياض ، دمشق وطهران سيكون له شكل منعكس بالضرورة على الأوضاع  في صعدة. و شاهدنا نهاية الأسبوع الفائت مقدمات هذا "الانجاز السياسي للسلطة " ماثلا في محادثات الملك السعودي وبشار الأسد في دمشق.
على اليمنيين التعامل بإحساس اكبر مع هذه الحرب بكل مآلاتها الخطيرة والضغط لإيقافها  أولا وجلب الحوثيين للحوار. بواسطة ذلك  يجب أن يسعى الجميع لدفعهم للتخلي عن السلاح. لقد أصبح العمل من اجل تهيئة طاولة حوار واسعة بما فيه الكفاية لجعل المشكلة  شانا وطنيا أمرا بالغ الضرورة. لعل ذلك يسهم في تدارك ما يمكن تداركه قبل أن تصبح الأمور شأنا خارجيا خالصا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق