الجمعة، 17 أبريل 2009

المراوحة في المنطقة الرمادية

يتعامل الصحفيون مع مهنتهم بسوء تقدير شديد، وفي اللحظات الحاسمة تنازل الصحفي عن رأسه قربانا لمعدته ففقد الاثنين معا!

عبدالعزيز المجيدي

انتهت أعمال المؤتمر العام الرابع لنقابة الصحفيين إلى تسوية مجحفة بحق المهنة: إبقاء الحال على ما هو عليه.

كان واضحاً منذ بداية التحضير لأعمال المؤتمر أن النقابة لن تفلت من الحسابات السياسية للسلطة، والمعارضة أيضاً. وقد تعاملت الأطراف مع الصحفيين كقطع شطرنج ضبطت نقلاتها حتى اللحظات الأخيرة.قبل انعقاد المؤتمر بأيام أطلقت مجموعة من الصحفيين بياناً شديد اللهجة حيال طريقة التحضير للمؤتمر.وإذ قال البيان إنها تدار من غرف حزبية ورسمية، اتهم مجلس النقابة بالتقاعس عن أداء مهامه.


جملة من المطالب وضعها بيان لـ30 صحفياً، من بينها تنقية العضوية من العسكريين والأمنيين والدخلاء على المهنة، وتأجيل طرح مسودات مشاريع خاصة بتعديلات النظام الأساسي وميثاق الشرف، ملوحاً في هذا الصدد بخيارات مفتوحة.وكانت الخيارات المفتوحة إشارة ضمنية إلى ورقة ضغط تهدد عملياً بالانشقاق وتشكيل كيان مستقل.لقد أحدث البيان خضة قوية لدى السلطة حتى وإن لم تبد اكتراثا للأمر على نحو علني.ورغم أن السلطة عمدت إلى شق العديد من النقابات المهنية، إلا أنها أبدت حرصاً لافتاً على إبقاء نقابة الصحفيين كياناً موحداً، لكن بحسابات لا علاقة لها بالنقابة أو المهنة. إنها تتخوف تماما من وجود كيان نقابي مستقل للصحفيين غير خاضع لهيمنتها وإن في شكله القائم الآن.خلال أقل من يومين تحرك البعض لاحتواء ما بدا أنه تلويح بما تخشاه السلطة: إعلان نقابة مستقلة.تفاهم نقيب الصحفيين المنصرف، نصر طه مصطفى، بالإضافة إلى عدد آخر من الصحفيين، مع ممثلين عن جماعة البيان، وأبدى الرجل اهتماما بالأمر عكس حرصا على إنجاز تسوية بشأن مطالب بيان الـ30 على نار هادئة حتى وإن اقتضى الأمر اعتبار وحدة النقابة تكليفاً "شرعياً"؟جُمع الفريقان للتشاور، وحُسمت مخاوف الانقسام، لينتهي اللقاء بالاتفاق على تأجيل مناقشة مشروع تعديل النظام الأساسي، وتكليف لجنة يتم اختيارها من المؤتمر العام لدراسة الموضوع والتباحث بشأنه مع الصحفيين لاحقاً خلال مدة 6 أشهر. وببساطة أنهى الفريقان ما بدا أنه خلاف جوهري بتسوية غير محددة الملامح في جوانبها الأخرى.بالنسبة للمؤتمر الشعبي العام فإن نظرته للصحفي لا تختلف عن نظرته للناخبين العاديين في أي انتخابات أخرى، إنهم جمع من المعوزين الذين يسهل التأثير عليهم بالقليل من المال.بينما كانت النقابة تستقبل الصحفيين القادمين من الفروع والمحافظات الأخرى، كان معهد الميثاق، التابع للمؤتمر الشعبي العام، هو الآخر يستقبل المئات منهم بالإضافة إلى الصحفيين في العاصمة لتوزيع مبالغ مالية للتأثير على قناعاتهم حيال المرشحين.تراوحت المبالغ بين 7 آلاف ريال للمقيمين في صنعاء و15 ألف ريال للقادمين من المحافظات. إنها التفاتة يجيدها حزب الرئيس تماما في المواسم الانتخابية.قبل أن يدخل الصحفيون إلى مؤتمرهم العام أكملت الحكومة مناورتها المكرسة للانتخابات. فبعد طول مطالبة بإقرار مشروع التوصيف الوظيفي للعاملين في المؤسسات الإعلامية التي اندلعت هي الأخرى على نحو مباغت أقرت الحكومة نهاية الأسبوع توصيفاً قالت إنه معدل، لكنه، بالتأكيد، فعل الكثير بشأن خيارات العاملين في المؤسسات الحكومية.بالتزامن مع ذلك تداولت الأوساط الصحفية أنباء عن اعتزام الرئيس حضور افتتاح المؤتمر. وضخت في هذا الاتجاه شائعات كثيرة من بينها أن الرئيس سيعلن منح الصحفيين قطع أرض.لقد صدقت الأولى وبدا أن الثانية لم تكن أكثر من بالونة اختبار لمهنة يبدو أصحابها أوهى من تحمل عرض كهذا رغم بؤسه.صباح السبت انتشرت الحراسات الرئاسية الخاصة لتشكيل حزام أمني بقطر كيلومترين تقريباً من قاعة انعقاد المؤتمر العام في صالة أبوللو بصنعاء، بينما توزع عشرات الحراس على طول الطريق التي سيسلكها الموكب الرئاسي من وإلى المؤتمر.وقتها كان الصحفيون قد أدركوا أن ضيفاً آخر، هو رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين، سيكون أحد المشاركين الكبار في فعالية الافتتاح، بالإضافة إلى الأمين العام المساعد لاتحاد الصحفيين العرب شبه الرسمي.لقد حافظ السيد جيم بوملحة على احترام صفته كرئيس للاتحاد الدولي للصحفيين وهو يتلو كلمة الاتحاد في حفل الافتتاح، عقب انهماك نقيب الصحفيين المنصرف نصر طه مصطفى في كيل المديح والثناء للرئيس الذي "أولى الإعلاميين كل الرعاية والاهتمام"، حد قوله.تعامل بوملحة مع الصحفيين باعتبارهم أهم الحاضرين في المؤتمر. مباشرة خاطب الصحفيين على هذا النحو: "إخواني، أخواتي..."، ثم مضى في الحديث عن المهنة وما تجرّه من ويلات على أصحابها في كل مكان في العالم.وفي إشارات ذات دلالة فقد اعتبر أن العدو دائماً للمهنة "السلطات الحاكمة وأجهزة الشرطة والمحاكم".حين خاطب الرئيس لم يكن إلا لغرض وحيد: توجيه السلطات بإنفاذ قراره بالعفو عن الزميل عبدالكريم الخيواني الذي تمت محاكمته وإسقاط التهم الملفقة بحقه.لقد امتدح بوملحة الخيواني كصحفي شجاع وحر بعد التنديد بحكم الاستئناف الذي أصدرته محكمة أمن الدولة بتأييد الحكم الابتدائي بسجنه 6 سنوات.تفاعل الصحفيون مع كلمة بوملحة بتلقائية، بينما اشتعلت القاعة تصفيقاً كفواصل بين جملة وأخرى إعجابا بانغماس الرجل في هموم المهنة وهجومه الشديد ضد القوى التي تعادي الصحفيين في اليمن.أن قضية الزميل الخيواني لم تكن في أجندة كلمة الرئيس على الأرجح، لكنه اضطر مرتين لتأكيد إسقاط العقوبة عن الخيواني.قال الرئيس إن على الخيواني أن "يعود مواطنا صالحاً" وحثه على "الابتعاد عن إثارة النعرات الطائفية والعنصرية"، وقد كان الأمر بمثابة شروط للقرار مرفقا بتهمة إضافية.في جانب آخر أظهر الرئيس مدى سيطرته الشخصية على السياسات المتبعة بشأن حرية الصحافة والرأي، فقد وجه في خطابه وزير الإعلام بإصدار التراخيص الموقوفة، وإعداد قانون لتنظيم إنشاء القنوات القضائية والمحطات الإذاعية.ضمن جدول أعمال الافتتاح كانت فقرة تكريم الخيواني بجائزة العفو الدولية الخاصة بالصحافة المعرضة للخطر إحدى ضحايا الحضور الرئاسي. فقد عملت قيادة النقابة بحزم لإرجاء حفل التكريم الذي كان مقرراً إلى نهاية أعمال المؤتمر.وكان بادياً أنها تقف على دوافع مرتبطة بالخشية من إزعاج الرئيس.أثناء حديث الرئيس ارتفعت الأصوات، مطالبة بصرف أراض للصحفيين وإقرار توصيف الإعلاميين، وقد وجد الرئيس في هذا التصرف سبباً لتوجيه ضربة موجعة للصحفيين: "إحنا مش في سوق، أنتم كصحفيين نخبة كنا نعتبركم قمة الأدب وقمة الأخلاق وقمة الذوق"، في إشارة إلى أن العكس هو ما حدث! ربما كان الرجل محقاً في هذا الجانب، فقد بدا البعض، ومعظمهم من العاملين في المؤسسات الرسمية، كشحاذين أمام من ينظرون إليه كواهب مكرمات. إنهم لم يقدروا بعد قوة مهنتهم، ولم يجربوا المراهنة عليها في انتزاع ما يجب الاقتناع بأنها حقوق خارج الصورة المستجدية.استكمالاً للتسوية التي سبقت المؤتمر أقر المؤتمر العام بعد منازعات متعددة تأجيل مناقشة الوثائق المقدمة: ميثاق الشرف وتعديلات النظام الأساسي. قبل أن يتم التعامل مع أعماله كدورة انتخابية خالصة استجابة لبيان الـ30.وانخرط الجميع في ترتيب تحالفاتهم وهواجسهم لرسم شكل القيادة المقبلة داخل القاعة وخارجها أيضا!بالنسبة لموقع النقيب بدا أن الصحفيين بما في ذلك أحزاب المعارضة على قناعة راسخة أن هذا المكان محجوز فيما يشبه الكوتا لمصلحة رئاسة الجمهورية!ورغم أن ياسين المسعودي كان الأكثر حظاً في ترجيحات منافسات دوائر القرار، فإن رؤوفة حسن الأكاديمية في جامعة صنعاء والمصنفة سياسيا على السلطة، خلطت الكثير من الحسابات بهذا الشأن.لكن ياسين المسعودي ظل صاحب الحظ الأوفر حتى اللحظات الأخيرة بسبب وقوفه على دعم أكبر ظهر في إجماع سيطر على صحفيي المؤسسات الإعلامية الرسمية.حاول نعمان قائد سيف وهو كاتب وصحفي مستقل ذو اتجاه ناقد للسلطة كسر استئثار الرئاسة بالموقع الأول في النقابة، وقد فعلها للمرة الثانية، غير أنه لم يكن متهيئاً للأمر في جانب حملة الترويج لشخصه، إذ كان المرشح الوحيد الذي خلت القاعة من صوره وملصقاته.أثناء عملية الاقتراع ضخ المؤتمر الشعبي العام قوائم عديدة حاولت استيعاب كل الأمزجة الجغرافية والسياسية، لكن مع سيطرة مطلقة لمرشحيه.بالمقابل نزلت أحزاب المشترك متأخرة بقائمة موحدة ضمت أبرز مرشحيها.لم تخلُ المسألة من تكتيكات ومناورات أبداها المرشحون بمن فيهم أولئك المستقلين. وعقد الكثيرون ما يشبه المقايضة: "صوت لي أصوت لك"، بينما ظلت الخيارات المهنية خارج اللعبة تماماً.للحصول على الأصوات لا يحتاج المرشح إلى صفات مهمة بالنسبة لهذه النقابة: الحضور المهني والقيادي للمرشح. الأمر يتم حسمه خارج تلك المعايير، غالبا وفقا للعلاقات الشخصية، بالإضافة إلى مؤثرات أخرى ذات صلة بالتوجهات الحزبية.أثناء التوجه لصناديق الاقتراع لم يختلف المشهد كثيراً عن أي انتخابات تجرى في أي مديرية ريفية. فقد واصل محركو الحملات الانتخابية للمرشحين ملاحقة المقترعين حتى الصناديق، محاولين التأثير على قناعات أعضاء المؤتمر العام بتوزيع بطاقات وكروت مرشحيهم.لقد لفت الأمر لجنة الفرز وحذرت مراراً من الوقوف بجانب المنصة، لكن المشهد لم ينته إلا مع إدلاء آخر عضو بصوته في الصندوق.المؤكد أن جيم بوملحة ورفيقيه من الاتحاد الدولي لم يخرجوا بانطباع جيد.فالمفارقة ما زالت مستمرة على قمة هرم النقابة: نقيب للصحفيين مهمته الدفاع عن حقوق زملائه وحرية الصحافة أمام الحكومة، لكنه في الوقت نفسه نائبا لرئيس مجلس ادراة مؤسسة صحفية تعينها الحكومة أو الرئيس!خلافاً للمؤتمر العام الثالث الذي أحدث شيئاً من الحيوية في عمل النقابة، فإن المؤتمر الرابع لم يسفر عن أي تغيير جوهري. هناك بضعة وجوه جديدة صعدت لعضوية المجلس، لكن قدرتها لم تختبر بعد في مواجهة سياسة "المخالب الناعمة" التي أطبقت على النقابة مؤخرا.كان المؤتمر مناسبة لأحداث تحول مهم في مسيرة العمل النقابي بالبلد، غير أن الجميع فضلوا الإذعان لتسوية تقود إلى التعايش مع ما هو قائم حتى وإن كان على حساب المهنة النوعية. يقع اللوم بالدرجة الرئيسية على الصحفيين، إذ تعاملوا مع مهنتهم بسوء تقدير شديد. ففي اللحظات الحاسمة والمهمة تخلى الصحفي عن رأسه وقدمه قربانا لمعدته ففقد الاثنين معا!وفي الواقع فإن الصحفيين، لم ينجزوا شيئا خارج التسويات الفوقية المستمرة بمصادرة حقهم في كيان مستقل. ثمة حديث عن توازن مستمر في المجلس الجديد للنقابة. إن الأمر لا يعني في الخلاصة شيئا سوى أن الجميع ما زال يراوح في المنطقة الرمادية، حيث يسيطر خيار وحيد ومغلق: البقاء تماما بمنأى عن أي فكرة نقابية ناجزه وحقيقية، خارج سيطرة السلطة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق